بريطانيا والإخوان مجددا.. اغراءات “البقرة الحلوب”

تعتبر بريطانيا أكثر دولة تدرك تفاصيل ومراحل تطور جماعة الإخوان، بحكم أن الجماعة ولدت إبان الاستعمار البريطاني لمصر.

شيء ما يحدث تحت الطاولة يدفع السياسة البريطانية لاتخاذ موقف متشدد تجاه الإخوان بعد أن هدأت عاصفة تقرير السير جون جينكينز، السفير البريطاني السابق لدى السعودية، والذي أعلنت بعض نتائجه في العام 2015. بدون مقدمات تذكر استقبلت القاهرة  يوم الأربعاء الماضي أليستر بيرت وزير الدولة البريطاني لشئون الشرق الأوسط في زيارة استغرقت يومين، التقى خلالها وزيري الخارجية والداخلية المصريين، ونشرت له الأهرام مقالا متشددا ضد الإخوان اتهمهم فيه بإخفاء أجندتهم، وأكد أن بريطانيا تفرض رقابة مشددة على أنشطتهم. ولم يكد الوزير الجديد يغادر القاهرة حتى وصل إليها رئيس لجنة الاستخبارات المشتركة في مجلس الوزراء البريطاني تشارلز فار وهو الذي سبق أن شارك في كتابة تقرير السير جينكيز عن الإخوان، وهو التقرير الذي رفضت الحكومة عرضه على البرلمان، أو السماح للسفير جينكيز بالمثول أمام البرلمان للرد على استفسارات النواب، وهو ما لاقى استهجانا وقتها من مجلس العموم البريطاني.

لا جديد

لم تحدث ثمة تغيرات أو أحداث كبيرة تدفع الحكومة البريطانية لهذه التحركات الغريبة، وبالتالي فإن البحث عن أسباب لتلك التحركات يبقى أمرا مهما، وهنا لا يمكننا البتة تجاهل الأيدي السعودية -الإماراتية التي دفعت من قبل لتشكيل لجنة السير جينيكيز، والتي غالبا تقف اليوم خلف هذه التحركات الجديدة، فمن دفع أو وعد بدفع 460 مليار دولار لإدارة ترمب لكسب رضاها، وتعديل سياساتها في المنطقة بما يوافق الخط السعودي ليس عاجزا عن دفع مائة مليار أو حتى 50 مليارا فقط لبريطانيا لتعديل سياستها أيضا تجاه الإخوان المسلمين، كما  أن البريطانيين الذين أصدروا ذاك التقرير إرضاء للسعودية من قبل لا يقبلوا أن يخرجوا من المولد بلا حمص، أو أن يقفوا متفرجين على استحواذ ترمب على تلك المبالغ الضخمة دون أن يكون لهم نصيبا مقبولا أيضا، وهنا ستكون المسؤولية على مجلس العموم البريطاني لكشف ما يجري تحت الطاولة لتغيير سياسة بريطانيا.

كل ما يخص الجماعة

تعتبر بريطانيا أكثر دولة تدرك تفاصيل ومراحل تطور جماعة الإخوان، بحكم أن الجماعة ولدت إبان الاستعمار البريطاني لمصر، وكانت ولادتها في الإسماعيلية في قلب المنطقة التي يشرف عليها الإنجليز مباشرة، واستطاع البريطانيون خلال حقبة استعمارهم لمصر وحتى بعد ذلك أن يجمعوا كل ما يخص الجماعة من تفاصيل، ولذلك ينظر الغرب إلي أي تقرير يصدر عنهم بشأن الإخوان باعتباره تقريرا مرجعيا واجب الاتباع دون مناقشة. ولذلك فبالرغم من كل الضغوط والإغراءات التي قدمتها السعودية لحكومة ديفد كاميرون إلا أن نتيجة التحقيق التي توصلت لها لجنة جينيكيز ( 2015) لم توص بتصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية وفقا للمطلب السعودي، واكتفت بوضع الإخوان في منزلة بين المنزلتين فلا هي بالإرهابية ولا هي بالبريئة من التطرف، بل اعتبر التقرير أن الانتماء للإخوان يمكن أن يكون مؤشرا محتملا للتطرف رغم أنه لم يسجل على الإخوان أي أعمال عدائية أو عنيفة ضد المجتمع البريطاني على مدى تاريخ الوجود الإخواني، وهو ما أثار حفيظة مجلس العموم الذي كلف لجنة برئاسة كريسبين بلانت، رئيس لجنة الشؤون الخارجية، للتحقيق في اتهامات للحكومة بعدم الشفافية في التعامل مع ملف جماعة الإخوان المسلمين، وخضوعها لإملاءات دول خليجية سعت لإدانة الجماعة ووصفها بالإرهاب. وقد انتقدت اللجنة الحكومة، واتهمت وزارة الخارجية بعرقلة تحقيقاتها من خلال رفض إعطائها نسخة كاملة من تقرير جون جينيكيز أو حجب الاستعراض، وحتى عدم السماح لـ “جينكينز نفسه بالإدلاء بشهادته شفهيا، وأضاف تقرير مجلس العموم أن الجماعة بصورة عامة لم تنتهج العنف للوصول للسلطة، كما لم تلجأ إلى استخدامه في مصر عقب الإطاحة بالرئيس مرسي ولم تقره، وإلا لكانت مصر الآن مكانا أكثر عنفا، كما أوضح التقرير أنه لا الإخوان ولا غيرهم يمكنهم التحكم تماما في جميع أعضائهم حال تعرضهم للاعتقال التعسفي وغياب المحاكمات العادلة وانسداد الممارسة السياسية؛ لأن هذه الممارسات ستدفع البعض إلى العنف.

عودة للتشدد

بعد تلك الجولة لمجلس العموم والتي عدت انتصارا للقيم الديمقراطية الحقيقية، وبالتبعية انتصارا للإخوان، عاد التشدد للسياسة البريطانية، وعبر عنه بوضوح ألستر بيرت وزير الدولة البريطاني لشئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مقاله الذي نشرته الأهرام يوم الخميس الماضي بعنوان “مصر وبريطانيا معا في مواجهة الإرهاب والتطرف” والذي وجه فيه تحذيرا لأى شخص، في أي منظمة، يثبت تحريضه على الكراهية وتسامحه مع أو دعمه أو تبريره للإرهاب سيعتبر مخالفا للقانون ومعرضا للملاحقة القضائية والعقاب، وموضحا أن “هذه الرسالة موجهة أيضا إلى الإخوان المسلمين”.

وقال الوزير في مقاله “تعمل بريطانيا في الوقت الراهن على تنفيذ الإجراءات التابعة لمحتوى التقرير(تقرير جينيكيز)، وعلى الرغم من عدم استيفاء الأدلة للحد الذى يفضى إلى حظر التنظيم، إلا أنه سيتم فرض رقابة مشددة على سلوك جماعة الإخوان المسلمين وأنشطتهم بما في ذلك طلبات استخراج التأشيرات لهم، ومصادر تمويل الجمعيات الخيرية، وعلاقات التنظيم الدولية. وتعد بريطانيا الآن واحدة من الدول القليلة في العالم التي حظرت جذريا أي اتصال لها بجماعة الإخوان من عام 2013 مضيفا: “من خلال رصدنا لأنشطة جماعة الإخوان المسلمين حول العالم، أصبح من الواضح فعلاً أن هذا التنظيم يلجأ إلى استخدام الغموض لإخفاء أجندته المتطرفة في مصر”.

الرز

مرة أخرى من المؤكد أن هذا التغير في اللهجة البريطانية تجاه الإخوان ليس أمرا بريئا، وليس مجرد خطوة طبيعية لتنفيذ توصيات تقرير جينيكيز الذي صدر قبل عامين، والذي طعن مجلس العموم البريطاني في مصداقيته، والذي لم يصل إلى الاستنتاجات ذاتها التي عبر عنها الوزير البريطاني ( المستجد)، كما أنه ليس مجرد رد فعل لتزايد الهجمات الإرهابية في بريطانيا والتي لا علاقة للإخوان المسلمين بها البتة، وبالتالي فإن من المؤكد أن أياد خفية تقف وراء هذا التغير، وقد ألمحنا إليها، وهنا نحن أمام عدة احتمالات لتطور الأوضاع أولهما أن يكون الثمن الذي ستتلقاه بريطانيا مغريا وبالتالي يمكنها تصنيف الإخوان كجماعة إرهابية، أو على الأقل التقدم خطوة باتجاه هذا التصنيف وإن لم تصل إليه بشكل كامل، أو أن الحكومة البريطانية ستظل تناور بهذه التحركات لابتزاز السعودية والإمارات بأكبر قدر ممكن دون أن تعطيهما ما يريدان في النهاية، فهي تنظر إلى هذه الدول الخليجية باعتبارها مجرد “بقرة حلوب” كما وصفها ترمب، أو أن يتصدى مجلس العموم لهذه المهزلة دفاعا عن سمعة بريطانيا، ويعيد مطالبته للحكومة بعرض تقرير السير جينيكيز واستدعائه للشهادة، واستدعاء ألستر نفسه ، أو تشارلز فار أيضا للشهادة.

“الرز” إذن سيكون له دور حاسم في هذه المعركة التي ينبغي على الإخوان التصدي لها بقوة المنطق كما فعلوا في المرة الأولى في مواجهة منطق القوة -وإن كانت مالية فقط – الذي يتعامل به خصومهم.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه