انحسار النخبة- والمناضل الفيسبوكي

أنوار أيوب سرحان*

“أعرف أنكم لا تريدون ما أقول ولم ترغبوا في سماعه، ولكني قائدكم. ومن واجبي أن أخبركم بخطئكم حين تكونون على خطأ”
بهذه الكلمات خاطب نيسلون منديلا شعبَه الثائر ذات خطاب بصوت العقل، فأوجز ما نفتقده اليوم من دور للقياديّ الحقيقي، ذاك القادر على أن يرى الحقائق أوسع وأشمل  وأن يُريَها للآخرين ويقنعهم بها  فترحب رؤاهم وتتّسع إمكانيات تعاطيهم مع الأمور مرتقيةً من العاطفة إلى الفكر،  مستعينةً بما يدفع إليه المنطق بربط المواقف الآنيّة مع ما يسبقها تاريخيًا وما قد يترتب عليها مستقبلًا.

فإذا كان تعريف القياديّة أنّها القدرة على التأثير على آخرين وتحفيزهم لخطوةٍ ما بأقلّ وسائل الضغط الممكنة، فإنّ لنا أن نعيدَ النظرَ في مشهدنا بعينٍ موضوعيةٍ، لنرى أنّ من يحرّك الأمور ويؤثّر فيها هم العامّة بعد أن ارتفعت أسهمهم، وتراجعَت مكانةُ النخبة التي فقدَت مصداقيّتها بصورةٍ تراكميّةٍ عبر سنوات وفي مختلف المجالات. إذ بات دور النخب منحسرًا وأفق التطلع منحدرًا.
لعلّ هذا الفراغَ ممّا أتاح يروزَ الحركات المتطرفة وشيوع الفوضى وانهيار الربيع العربي الذي لم يجد من يقود مراكبه إلى ضفةٍ جديدةٍ، فإذا كلّ مركب منها غارق في لججٍ أعمق. وبلفتةٍ إلى عالمنا العربيّ الممزق اليوم سنرى أن هذا التشرذم مرتبطٌ وثيقًا بانهيار الثقة بالنخب الثقافية أو السياسية. مما أفسح متّسعًا لوجود بدائل رسّخت لضحالة التفكير عبر تسويق الشائعات والفبركات  التي تجد رواجًا في عقولٍ لا تحاسبها إلا كحقائق، وتعزّز الصّوتَ البدائيَّ مخرسةً أيَّ اختلاف.
أما نحن الفلسطينيين في إسرائيل (عرب 48)، فإن كنا لم نشهد ربيعًا وثورةً،  إلا أننا لم نفلت من تأثير هذا المشهد ، سواء في ما جرى من تقزيمٍ لدور لجنة المتابعة العربية أو الصراعات بين الأحزاب العربية، خاصةً كما تجلّت في قضية انتخبات بلدية الناصرة العام المنصرم، والتي تحوّلت إلى حلبة اقتتال وتصفية بين حزبي الجبهة والتجمع بشكل خاص. مما يقوّي ادّعاء المشككين بما يسمى الآن “وحدة الأحزاب” أو “القائمة العربية المشتركة” في انتخابات الكنيست الحالية، خاصةً أنّ مثل هذي القائمة لم تأتِ إلا كحلّ لمأزق رفع نسبة الحسم واحتمال فشل الأحزاب، وأنّ صياغتها اعتمدت بشكل أساسي على تنظيم المقاعد لا حوار الأفكار.
كيف وصلنا إلى هنا؟
يجدر بنا ألا نغفل دور الميديا في خلق هذا المشهد بدءًا بالفضائيات التي رسّخت للسطحية  ومنحت المنصّات لمن يعبثون بالعواطف ويؤجّجون تهييجها في شتى المجالات ، ثمّ إلى مواقع التواصل الاجتماعيّ التي كان لها الدور الأكبر في انهيار دور النخبة، بعد أن منح الفيسبوك لكل فردٍ  ممالكَ من وهمٍ يصرخون فيها ملءَ خرسهم، فيسمعهم الفراغ الممتدّ، وصارت حاشيةُ أحدهم أزرارًا كلما صرخ جاءته بإعجاب الجيران من أصحاب الممالك المماثلة. وكان أن صدّق أحدهم نفسه حتى آمن بأنّ له الأمرَ والنهيَ ناسيًا وهميةَ الحكم ووهميةَ البلاد ووهمية الأهل فيها.
وصارت حكاياتهم فيها صورًا يرتسمون منها محللين ومبصّرين ومفكرين وصنّاع قرار..وامّحت الحدود وترسّخت الندية واستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وتساوى الذين يعملون والذين لا يعملون.
وسرعان ما استثمر كثيرون هذي الممالك المجانية وانقلبوا بها إلى شخوصٍ اختلقوها، اغتالت مواقع النخبة وجعلت من جمع اللايكات سبيلاً إلى صنع نخبٍ بديلة، وإن كانت زرقتها زائفةً إلا أنها مرشوشة ببريق قادر أن يخدع. فإذا نحن أمام نخبٍ جديدة، معاييرها الأساسية دغدغة الللايك وسمَتها  الأبرز مهارة التواصل.

الشاعر والمثقف الفيسبوكي :
لعلّ أفظع المعاني التي اغتالتها مواقع التواصل، هو مفهوم الشعر ، الذي بات أشبه بمصطلح “الإرهاب” يستخدمه كلٌّ وفق هواه . إذ اختلط الماس ببسطات الخردة الصدئة، وصار من السهل أن يكتب أحدهم عبارتين بأخطاء إملائية ونحوية ولغوية وينال إعجاب أصدقائه ومجامليه، بل وتمجيدَهم.
 ولما كان “اللايك” معيارًا، وكانت أعداده قيمةً، فقد انقسم المبدعون والمثقفون إلى فئتين: أمّا أصحاب الفئة الأولى فانغمسوا في معايير السوق وصاروا يكتبون ما يضمنون به حصدَ “اللايك” ، ويجاملون ما لا يمتّ للإبداع بصلةٍ ،  وينادون بما لا يؤمنون به، سعيًا لكسب إعجاب الجمهور، فارتسمت بهم سماءٌ بنجومٍ مخاتلة.  وأما أهل الفئة الثانية فقد نأوا بجواهرهم عن الأسواق مؤمنين بما فيها، واتّخذوا لأنفسهم المجلات المختصة على قلّتها، وإن أحالتهم إلى أسماءٍ قد تبدو مغبونةً ممّن هم أقل منها موهبةً بكثير. ثم ضاعت النفائس أيضا في أسواق الكتب بعد أن سكن الوهم كثيرين من أهل الفيسبوك فانتقلوا إلى طبع “ستاتوسات” بائسة في كتب وتسويقها في دور نشر تحتفي بالسذاجة ما دامت تدرّ الأرباح.
أضف إلى ذلك ما برز من مسابقات “بسطات الأدب والفن”، التي تعتمد فيها النجومية على أصوات الجمهور، وهو الجمهور الذي لا يملك أدنى ثقافةٍ تؤهّله للتقييم، فصار التصويت مستندًا على فئوية ضيقة تجمع بين المصوِت والمصوَّت له، ومعايير لا علاقة لها بالأدب أو الفن أو الثقافة. وبدا أنّ الطريقة الأمثل لاغتيال المبدع هي أن يُطرح إبداعه في بسطةٍ جديدة، ليروّج لبضاعته، فأمّا من حلم بالشهرة فسيبيع بمهارة، وأمّا من كان الإبداع حلمه الأبديّ فسينأى بإبداعه، والنتيجة مجددًا أن يفقد تأثيره فيهم أيضًا.

مناضلو الفيسبوك:
أما سياسيًّا فيبدو المشهد أكثر ارتباكًا، بعد أن عرفنا شخصية المناضل الفيسبوكي،
إذ بدا فجأةً أن النضال سهلٌ وطريقه معبدة بالورود، وأنه ليس نمط حياة ولا نهجًا فكريًا ولا سيرة حياة وطنية. فهو لم يتطلب في البداية أكثر من صورة للبروفايل وبعض “الستاتوسات” والشعارات التي تدغدغ العواطف، وتتاجر بالقضايا الوطنية، ثمّ امتدّت مساحة التأثير إلى المشاركة في النشاطات والمسيرات، وصار يكفي أن يكون في صفحة أحدهم خمسة آلاف صديق وأن يروا صورته في مظاهرة ويقرأوا شعاراته “التخوينية” المزايدة على الجميع حتى ينصّبوه مناضلًا .
ولما ارتفع صوت الغوغاء على حساب العقل، آثر كثيرون من القادة السياسيين أن يكسبوا أصوات العاطفة بدلًا من إعلاء صوت العقل، وكانوا أشبه بالملك الذي لمّا شرب أهل مملكته من النبع المسموم وفقدوا العقول ارتأى أن يشرب مثلهم كي يملك مجاراة رعيته.
النتيجة الموجعة أن كثيرًا من المعاني اغتيلت، وحملت ما ليس منها، وأنّ صوت العقل بات مغيَّبا ومخوَّنًا ، واختلطت المقاومة بالخراب، وامتزج النضال بالهراء، وصرنا ننحدر نحو الهاوية مفتقدين قادةً حقيقيين يحاكون العقول ويشيرون إلى من حولهم بالخطأ ويُعينونهم لرؤية الصواب، بعد أن بات التأييد مقرونًا بالهتاف للأصوات المخنوقة بعمى رؤاها.

البطل الضحية:
في كلّ تغييرٍ لفكرٍ أو لمنهج في العمق عبر التاريخ ، كان المبادر الأول هو البطل الحقيقيّ، والضحية في آن..كونه ولأجل فكرةٍ آمن بمصداقيّتها، دفع الثمن من أمنه واستقراره ليكون الشمعة التي تحترق كي تنير دروبَ التطوير الحقيقيّ ، لا الشكليّ إنما العميق المتمثّل في تغيير رؤية الآخرين وإدراكهم وقناعاتهم ، فهل نستعيد هذا المجد ونشهد من يقنع البسطاء بفكرٍ يرتقي بهم بدل الانحدار إليهم؟

_______________


*كاتبة فلسطينية من الجليل

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه