اليونسكو .. وعرب الاختلاف والفرص الضائعة!

لم يبلغ العرب بعد مرحلة النضوج ليكونوا صوتا واحدا في المحافل الدولية.

القاعدة عند العرب هي الاختلاف، والاتفاق هو الاستثناء النادر، ولذلك يُقال إن العرب اتفقوا على ألا يتفقوا.

أحدث محطة اختلاف عربية كانت في انتخابات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) التي انتهت بعد ماراثون طويل مساء الجمعة 13 أكتوبر الجاري بفوز المرشحة الفرنسية أودري أزولاي بشق النفس، وبفارق صوتين فقط عن منافسها القطري الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري الذي أبلى بلاء حسنا، وظل متصدرا السباق طوال الجولات الأربع للانتخابات.

والاختلاف العربي في يونسكو 2017 كان صارخا، فقد وصل لمرحلة مزعجة في المكايدة والخصومة، إما أن أفوز، أو أجعل من تلوح له فرصة للفوز ألا يفوز عبر دعم الأجنبي، لم تعد القاعدة أنا وأخي على الآخر، إنما صارت أنا والآخر على أخي.

تاريخ طويل من الشقاق العربي وصل مرحلة ألا يكونوا صفا واحدا ضد ابتلاع دولة منهم “العراق” لدولة منهم “الكويت” عام 1990، ففي تلك الكارثة الكبرى كان هناك عرب مع غزو واحتلال الكويت، ثم تكرر الأمر نفسه بعد 13 عاما حيث وقف عرب أيضا مع غزو واحتلال أمريكا للعراق.

واليوم هناك عرب يقاطعون دولة منهم، بينما يقف الآخرون متفرجين، وكأن الأمر لايعنيهم، فلا يتحركون جماعة لتكون لهم قوة معنوية وأدبية وسياسية لرأب الصدع، وحل الخلاف، ووضع حد للأزمة.

يتنافسون ويخسرون

ليست انتخابات 2017 على منصب المدير العام لليونسكو وحدها التي شهدت أكثر من مترشح عربي، ففي انتخابات 1999 كان هناك مرشحان، الأول مدعوم عربيا، وهو الدبلوماسي والوزير والشاعر السعودي الراحل غازي القصيبي، والثاني هو المصري إسماعيل سراج الدين، وهو مهندس في تخطيط المدن، ومهتم بقضايا التنمية، وكان نائبا لرئيس البنك الدولي، لم ترشحه مصر رسميا، كان مرشح المجتمع المدني الدولي والمثقفين والمفكرين حول العالم، والاثنان أخفقا، وأفسحا الطريق ليفوز الياباني كويشيرو ماتسورا الأقل منهما في المؤهلات والخبرات.

كانت هناك فرصة للقصيبي للمنافسة القوية، لكن وجود أصوات عربية متضادة يفتت أصوات العرب، والكتل المؤيدة لهم، ويجعل تلك الكتل لا تتحمس لأي منهم، أو تتهرب من دعم المرشح العربي بحجة التنازع بينهم رغم أنهم ينتمون لبيت واحد، ولكتلة جغرافية واحدة داخل اليونسكو.  

المبالغة في تأثير إسرائيل

وفي انتخابات 2009، برز فاروق حسني وزير الثقافة المصري الأسبق مرشحا قويا نال الدعم العربي، وسعى مبارك لحشد التأييد له بنفسه، ثم فجأة ظهر مرشح جزائري، هو الدبلوماسي والوزير والقانوني البارز محمد بجاوي، ورغم أنه لم يكن يمثل تهديدا كبيرا لكن ترشحه أكد قاعدة الاختلاف العربي، تلك الآفة المدمرة، ولم يفز حسني رغم تقدمه في جولات التصويت، وانتهت الجولة الأخيرة بينه وبين البلغارية إيرينا بوكوفا بفوزها بالمنصب ليس لقوتها ولا شعبيتها، إنما لأن أوربا تكتلت وراءها وحشدت لها 31 صوتا، التعصب والعنصرية الأوربية  فرضا نفسيهما، وكذلك عدم تقبل الهزيمة أمام مرشح عربي، وربما هناك طرف خيط خفي لدور إسرائيلي ولوبيات يهودية بإسقاطه عقابا له على تهديده ذات مرة بحرق أي كتب عبرية في مكتبات وزارة الثقافة، لكن لا يجب المبالغة في طغيان التأثير الإسرائيلي، ففي انتخابات 2017 كانت المرشحة الفرنسية أودري أزولاي، وهي يهودية، في المرتبة الثانية بعد المرشح القطري د. حمد الكواري، فلماذا لم تتحرك إسرائيل لجعلها تفوز في واحدة من الجولات الأربع بدل خوضها جولتين حاسمتين في يوم واحد ضد المصرية مشيرة خطاب، ثم القطري الكواري؟.

في الانتخابات الحالية كان ضمن المرشحين الثمانية أربعة عربا، أي للعرب نصف المرشحين، والنصف الآخر لبقية دول العالم، كيف لا يستفد العرب من درس تجربتين سابقتين كانوا قريبين فيهما من الوصول لأول مرة لهذا الموقع الدولي؟، العرب لا يقرأون التاريخ ولو كان حدث بالأمس فقط، لأنهم لو فعلوا ذلك لن يكونوا متسقين مع الطبيعة العربية الرسمية والنخبوية التي جُبلت على الاختلافات، والمكايدات السياسية.

قطر ومصر وخلفيات الترشح

قطر استبقت الجميع، ورشحت أحد أبرز وجوهها الدبلوماسية والثقافية، الدكتور حمد الكواري، ووفرت له الإمكانات للقيام بحملة ترويجية مكثفة وناجحة، وقد ظهر تأثيره في جولات التصويت إذ ظل في المقدمة، وتقديري أنه لو كان المرشح العربي الوحيد، وجرت الانتخابات في ظرف إقليمي وعربي غير الظرف الحالي الذي تمر به بلاده لكان حسم الانتخابات بسهولة ومنذ بدايتها.

مصر رشحت السفيرة مشيرة خطاب بعد قطر بوقت طويل، وهذا التأخير لم يكن في صالح القاهرة، ولا مرشحتها في جانب الدعاية والترويج لجدارتها بتحمل مسؤولية المنظمة، فقد مهد المرشح القطري أرضه جيدا، وأعد نفسه وبرنامجه بشكل مميز، وبذل جهدا كبيرا، وزار كل الدول الأعضاء بالمجلس التنفيذي، أو معظمها.

وبجانب تأخر مصر في إعلان ترشحها، فإن الوجه الذي قدمته لم يكن موفقا، مع تقديرنا لشخص السفيرة مشيرة خطاب، فلم تكن المرشحة التي تستطيع قلب الموازين، السلطة لم تفكر إلا فيمن حولها فقط، لم تنظر خارج منظومتها لتعثر على المرشح الأنسب، وتقدمه للعالم، كما أن ترشيح امرأة فقد زخمه بعد أن سجلت البلغارية بوكوفا نفسها كأول امرأة تجلس على عرش اليونسكو، علاوة على تقديم فرنسا مرشحة، ووجود مرشحة لبنانية، ما يعني أن ميزة المرشحة الأنثى لم تعد حدثا مثيرا.

ومع ذلك فقد خاضت مشيرةخطاب منافسة قوية، وتقدمت للأمام في جولات التصويت الأربع، ورفعت أصواتها من 11 إلى 12، إلى 13، ثم 18 صوتا، وعلى غير العادة دخلت في جولة خامسة للتصفية بينها وبين الفرنسية لتساوي أصواتهما في الجولة الرابعة ” 18 لكل مرشحة”، لتنافس الفائزة منهما الكواري في الجولة الأخيرة الحاسمة، وقد فازت الفرنسية بـ 31 صوتا مقابل 25 لـ مشيرة خطاب.

تنافس عام وليس مصريا قطريا

وربما من تصاريف القدر أن تخوض مشيرة خطاب منافسة خاصة مع الفرنسية، لاختبار مدى قدرة القاهرة على تجميع الأصوات لها، ومدى رغبة مجتمع اليونسكو التصويتي فيها، بعيدا عن وجود مرشح قطري في هذه المنافسة الثنائية، لأنه طوال جولات التصويت كانت هناك أصوات إعلامية مصرية تصور التنافس كأنه بين مصر وقطر فقط، وليس أن هناك سبعة مرشحين من بلدان مختلفة بينهم مصرية وقطري، علاوة على كلام كثير عن أموال تُدفع، واتفاقات سياسية تُعقد، وغيرها مما يعج به الفضاء الإعلامي، وفي النهاية لو كانت بعض هذه الادعاءات صحيحة لفازت قطر، لكن أوربا فرضت للمرة الثانية كلمتها، وتغلبت عليها سوءة التعصب والعنصرية، واقتنصت المنصب من مرشح عربي أيضا، لكن بالكاد كما حصل سابقا مع فاروق حسني، وتضيع فرصة عربية كانت سانحة لقيادة المنظمة المحروم منها العرب حتى اليوم.

وفي كل الأحوال فإن الصراع الجانبي المصري القطري في اليونسكو كان سينفجر حتى لو ظلت الأزمة ثنائية ولم تحدث المقاطعة الرباعية، إذ بجانب الخلافات السياسية، هناك طموح قطري للبروز عالميا، والوصول لقمة المنظمات الدولية لو استطاعت إلى ذلك سبيلا، وهناك رغبة مصرية حميمية لأن تكون ممثل العرب والأفارقة في المنظمات الدولية كما جرى في الأمم المتحدة عبر الراحل الدكتور بطرس غالي، واليونسكو تمثل حالة تحد لمصر مدفوعة بتاريخها وعمقها الثقافي والحضاري، لكن هذا وحده لا يكفي، هذه المناصب لها حسابات دولية أخرى، فهي اتفاقات وصفقات ومصالح.

سجلاتهم ليست أفضل

إذا كانت الدولة التي تقدم مرشحا لليونسكو يجب أن يكون لها دور بارز في مجالات عمل المنظمة في التربية والعلم والثقافة والتنمية البشرية والإبداع الإنساني والفكري، وأن تتمتع بسجل جيد في الحقوق وحريات الرأي والتعبير، وأن يكون لها دور في تجسير علاقات السلام والتعايش بين شعوب العالم، وتمكين المرأة ومنحها حقوقها، إلا أن الانتخابات كما ذكرنا لها حسابات سياسية تتجاوز هذه القيم النبيلة، وقد لا تفرز الأنسب دائما، البلغارية بوكوفا جاءت من دولة شيوعية سابقة سجلها لا يؤهلها لتمثيل اليونسكو، وقبلها الياباني ماتسورا جاء من دولة ذات تاريخ استعماري وحشي، والإسباني فيديريكو مايور ينتمي لدولة عاشت حربا أهلية و ديكتاتورية عسكرية دموية لأكثر من أربعة عقود، والسنغالي أحمد مختار إمبو كان من دولة استبدادية، ومن سبقوهم كانوا من بريطانيا وفرنسا  الاستعماريتان، وإيطاليا الفاشية، وأمريكا أول من استخدم القنبلة الذرية ضد الإنسانية في اليابان عام 1945، والمكسيك ذات التاريخ الموغل في الديكتاتورية والتصفيات الجسدية، لا أحد أحسن من أحد، فسجلات مختلف دول العالم مجللة بالسواد سواء ضد شعوبها، أو شعوب أخرى.

مدير اليونسكو.. مجرد موظف دولي

بقي القول إن مدير اليونسكو مجرد موظف دولي كبير، وصناعة القرارات مسؤولية المجلس التنفيذي المكون من 58 دولة وتُصّدق عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو مثل الأمين العام للأمم المتحدة، يدير شؤون المنظمة، وآليات عملها اليومية فقط، ومن يقولون إن إسرائيل لا تريد عربيا لقيادة المنظمة حتى لا يقف ضدها يبالغون لأنه خلال رئاسة البلغارية بوكوفا صدر أهم قرارين للشعب الفلسطيني، الأول حصول فلسطين على العضوية الكاملة للمنظمة عام 2011، والثاني إدراج مدينة الخليل والحرم الابراهيمي على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر في يوليو/تموز الماضي، وتسبب القراران في غضب عارم لتل أبيب وواشنطن وتجميد عضويتهما وحصتهما في الموازنة ثم انسحابهما رسميا، القرار في اليونسكو لمجلسها التنفيذي، مثل القرار في الأمم المتحدة الذي يكون لمجلس الأمن، وربما المدير العربي سيشعر بالحرج دوما من تهمة الانحياز للعرب، ومعاداة إسرائيل، وهذا قد يشل يده عن التفاعل مع القضايا العربية المشروعة ذات الصلة بإسرائيل.

النضوج الغائب

لم يبلغ العرب بعد مرحلة النضوج ليكونوا صوتا واحدا في المحافل الدولية، وبالتالي لن يفوزوا بأي موقع، وهم بخلافاتهم باتوا معبرا لفوز الآخرين، كما حدث في اليونسكو، وكما حدث في الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” في فبراير 2016 عندما أسقط الأردني علي بن الحسين، والبحريني سلمان بن إبراهيم نفسيهما، وأفسحا الطريق للمرشح الثالث السويسري جياني إنفانتينو للفوز برئاسة الاتحاد. 

 

 

  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه