الوحدة الإسلامية – المأمول والممكن

لا أظنُّ أنَّ على الساحة الإسلامية واجباً أولى بأن يطلق عليه “واجب الوقت” من هذا الواجب الأُمِّ، واجب الوحدة الإسلامية، فإذا كان العمل للإسلام والجهاد في سبيل الله والدفاع عن الحرمات وغير ذلك واجبات كبرى يستدعيها واقع الأمّة؛ فإنَّ هذه الواجبات الكبرى غير ممكنة التحقيق بدون الوحدة الإسلامية؛ لذلك – وبمقتضى قاعدة مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب –  فإنَّ هذه الوحدة واجب مقدم ومقدس.

   ومفهوم الوحدة الإسلامية مفهوم واضح ومحدَّد، وهو أن يكون المسلمون أمّة واحدة مُتَّحدة، أن يكونوا أمَّة إسلامية لا مجرد شعوب إسلامية، والفرق بينهما يتجلى في عنصر الهدف الواحد الذي يسعى لأجله الجميع، وأن يكونوا أمَّة واحدة لا تفرقها قوميات ولا عرقيات ولا أيديولوجيات تخالف عقيدتها، وأن يكونوا أمَّة متَّحدة يغيب بينها التنازع والتناحر.

ليس جامداً

   غير أنَّ هذا المفهوم المحدد الذي لا يوصف بالتميع أو الهلامية ليس جامداً على صورة واحدة، وإنما يتمتع بتعدد أبعاده وآماده وتنوع أطره ودوائره وكثرة أدواره وأطواره؛ الأمر الذي يجعله قادراً على التكيف مع كل الظروف والأحوال، ومنسجم مع روح الشريعة التي بنيت على قاعدة: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)

   فالوحدة في إطارها السياسيّ لها مستويات متعددة ومتباينة، فالخلافة الراشدة الواحدة مستوى، والملك الإسلاميّ الواحد الجامع للأمة مستوى أدنى منه، والممالك الإسلامية المتعددة التي ينشأ بينها تحالف سياسي وعسكري وتكامل اقتصادي مستوى ثالث، والدول الإسلامية التي يقوم بينها تعاون وتنسيق وولاء وتشملها جامعة إسلامية مستوى رابع، ربما يمثل الحدَّ الأدنى من مستويات الوحدة في إطارها السياسيّ.

   فإذا حققت الأمَّة ما تستطيعه من هذه المستويات فقد قامت بما وجب عليها شرعاً؛ حسب قاعدة: (لا يكلف الله نفساً إلا مسعها) و “إذا ضاق الأمر اتسع” و”المشقة تجلب التيسير”، ولا يصح إهدار المصلحة في المستوى الأدنى بذريعة انتظار الأعلى؛ لأنَّ “الميسور لا يسقط بالمعسور” و “ما لا يدرك كله لا يترك كله”، وهي قواعد شرعية وعقلية تواطأت على تقريرها الشرائع والعقول.

   والوحدة في إطارها العقدي والأيديولوجي لها مستويات متعددة ومتباينة، فانحصار الاختلاف في الفروع وموارد الاجتهاد وانحساره عن الأصول والثوابت، مع رعاية أدب الاختلاف وقواعده؛ يعدُّ أعلى مستوى من مستويات الوحدة في هذا الإطار، وقد كان مواكباً للمستوى الأعلى للوحدة في إطارها السياسيِّ وهو الخلافة الراشدة الواحدة.

   ودون هذا المستوى مستويات تنتهي إلى الحدّ الأدنى وهو توفر الرغبة والنية الصادقة في تحرير الثوابت وتمييزها عن المتغيرات، وفي تربية الأمة على الحوار وأدب الاختلاف، مع البدء في إنشاء مؤسسات مستقلة ترعى مشروع النهوض بمستوى الوعي المتجه بالأمة نحو المستوى الأعلى المنشود.

   والوحدة الإسلامية  في إطارها الأخلاقيّ السلوكيّ تحوطها جملة عظيمة من الأحكام الشرعية والآداب الإسلامية، تلك الأحكام والآداب التي تغذي روح الأخوة وتقوي أواصرها، وتنظم العلاقات بين الناس داخل الأسرة والمجتمع والدولة، وهي مبثوثة في أقطار  القرآن، ولاسيما سور الحجرات والنور والأحزاب وغيرها، ومنشورة في أرجاء السنة النبوية العطرة، ولا ريب أنَّ قوة التمسك بها تختلف من زمان لآخر ومن  ظرف لآخر اختلافاً يشكل مستويات يتدرج فيها العمل التربوي مواكبا للتدرج بتطبيق الوحدة في سائر الأطر.

الوسائل

   أمَّا الوسائل التي يمكن أن تتحقق بها الوحدة الإسلامية فهي غير منحصرة، وهي تخضع دائماً لمعطيات العصور وملابساتها، فقد تتحقق في زمان عن طريق التغلب لكيان إسلاميِّ ينشأ مبكراً فيسعى إلى ضم الكيانات الأخرى تحت لوائه ويأطرها على الوحدة أطراً، ثم تكون بعد ذلك عملية تكييف الناس تربويا على المتغير الجديد، وهذه وقعت في التاريخ كثيراً، وهي ممكنة الوقوع مستقبلاً، غير أننا لا نرى لها إمكانية على المدى القريب المنظور، وقد تتحقق عن طريق تنامي ظاهرة نشوء كيانات ودول إسلامية رشيدة تتواصل وتتعاون وتتكامل وتمثل بهذا قطبا جاذبا للبلاد الإسلامية الأخرى التي تجد نفسها مضطرة للدوران في فلكها رعاية لمصالحها.

   لكنَّنا مخاطبون بواجب لا ينظرنا ولا يهملنا؛ لذلك يجب أن نسعى لإيجاد البيئة التي تسهم في تحقيق الوحدة في أي صورة تتحقق وعلى أي وجه تأتي، وذلك عن طريق مجموعة من التدابير والفعاليات العلمية والتربوية والسياسية، تعدّ واجباً عاجلاً لا يسقط بذريعة انتظار الصورة  المثلى، ويعد العمل بها قيام بأمر الله لنا في قوله: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقوله: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) وقوله (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات).

   من هذه الإجراءات السعي في إيجاد هيئة جامعة تقوم ببعض أدوار أهل الحل والعقد، تُشَكَّلُ من كبار علماء الأمة الصادقين، ومن كبار رجال الإسلام الذين لهم على الأمة منَّة ولهم فيها شوكة ومنعة، هذه الهيئة إن قامت بشكل مؤسسي فإنَّها ستشغل كثيراً من الفراغ الذي سببه شغور الزمان من السلطان الشرعيّ؛ لأنَّهم أولوا الأمر على الحقيقة، وما الحكام إلا نواب عنهم وعن الأمة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وانعدام مؤسستهم الجامعة لا يعني انعدام وجودهم، والسعي لذلك واجب بحسب المستطاع، في أي صورة ممكنة وعلى أي مستوى مستطاع.

   الإجراء الثاني هو قيام مؤسسات علمية مستقلة ومتجردة تجتهد في بلورة الجمل الثابتة في الدين والسياسة وتمييزها عن المتغيرات، ووضع محددات تسهل التفريق بين الثوابت وموارد الاجتهاد، ووضع جملة من القواعد لإدارة الاختلاف، والاجتهاد عبر وسائل إعلامية راقية في نشرها وإشاعة العلم بها.

   الإجراء الثالث قيام مؤسسات تربوية تهتم بتربية المجتمع على الأخلاق التي تحقق الوحدة في إطارها الاخلاقي، وتعمل على نشر ذلك في الأمة بكافة وسائل النشر المتاحة، وتركز اهتمامها على الكوادر والطلائع المؤثرة.

   الإجراء الرابع إنشاء رابطة إعلامية حرة مستقلة تقدم أنموذجا مثالياً في العمل  الإعلامي الذي يتصف بالمهنية والمصداقية، ويسعى في نشر منتجات المؤسسات الأخرى، ويكون  اهتمامها الأكبر هو نشر الوعي المرتبط بواجب الوحدة في أطرها المختلفة ودوائرها المتعددة.

   الإجراء الخامس السعي بين الدول الإسلامية التي تتمتع بقدر من الاستقلال لإيجاد نوع من التكامل الاقتصادي والتعاون السياسي والعلمي والعسكري، وقد يكون للعلماء من التخصصات المختلفة والجامعات والمؤسسات العلمية وغيرها دور كبير في هذا إلى جانب بعض الدبلوماسيين المعروفين بإخلاصهم.

   هذا بعض ما يمكن تحقيقه، فهل نحن مستعدون للسعي، وهل نحن قادرون على التضحية ببعض أوقاتنا وجهودنا من أجل الوصول إلى هذا الحلم الكبير ؟!

    

 

     

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه