الممثل الرئيس

 

“رباه، أنت ممثل جيد” هذه العبارة قالها المحقق البريطاني “روبرت” للسادات بحسب فيلم “سادات” الذي قام بأداء دور الرئيس فيه الممثل الأمريكي لويس جوست جونيور.

تلك العبارة الفاتحة التي أدخلت السّادات عالم السّياسة وأوصلته إلى الرئاسة، فلكي تكون رئيساً يجب أن تتقن التّمثيل أولاً.. وقد أتقنه السّادات حدّ تفوقه على كلِّ الممثلين الذين قاموا بأداء دوره على الشاشة.

ربّما فهم السيسي هذه اللعبة فاعتمد في كلّ خطاب له على لبس مسوح “الممثل” فلبس دور الرومانسية مرّة والرهبنة مرّة والنعومة دائماً لكنّه في المطلق ممثل فاشل لا يعرف كيف يتقمص شخصية الرئيس فهو لا يمتلك الموهبة الكافية أو الإبداع ليبتكر هيئة محددة سوى المظهر العاطفي الذي يصرّ على ارتدائه دائماً وحتّى هذا الرداء فضفاض ولا يناسبه.. مع أنّه أحياناً في وقفاته الطويلة أثناء الكلام يوحي بأنّه سيغني بعد لحظات!

ولا أستثني عبد الناصر طبعاً فقد كان دوره في مسرحية الاستقالة إثر هزيمة “67” التي أهاجت مشاعر الملايين متقنٌ إلى أبعد الحدود.

علاقة الممثل بالشّخصية التي يجسدها:

داخل كلّ إنسان ممثل تفرضه الطبيعة البشرية، فالبشر ليسوا هم في كلّ المواقف التي يعيشونها وتمرُّ بهم، كلُّ شيء غير حقيقي يمكن أن نصنّفه على أنّه نوع من التّمثيل، لو واجه كلّ إنسان نفسه لوجد داخله ممثل صغير قد يكبر ويصبح واقعاً يفرض نفسه بقوة عندها يسلك طريق “الفن” والنجومية، وقد يبقى صغيراً ويظهر بين حين وآخر لينجي صاحبه من مواقف محرجة يعتمد فيها على تقمص شخصية أخرى يفرضها الموقف.. ويتخلّص من إثمه بإطلاق تسميات أخرى على الفعل الذي يمكن أن يدخل في نطاق “الكذب الأبيض” كما يسميه البعض.

الممثل “النجم” لا يختلف عن سواه كثيراً سوى بأنّه يمثل على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا.. أمّا باقي البشر فيمثلون في الحياة اليومية. علاقة كلّ إنسان مع الشّخصية التي يمثلها علاقة كلية، علاقة اندماج كامل لا تنويع عليها ولا تغيير.. بينما الممثل المحترف يقوم بأداء أدوار متعددة يساعده في ذلك موقعه كفنان أو لنقل مهنته في الحياة، وعلاقته بالشّخصية التي يمثلها تنتهي بمجرد التّفكير بعمل جديد سيتقمص فيه دوراً جديداً وهذا ما مكّن أحمد زكي _مثلاً_ من أداء شخصية عبد النّاصر وشخصية السّادات وشخصية عبد الحليم مع الفارق الكبير بينهم.

الرئيس لا يعتزل التمثيل:

لا يحتاج الرئيس “العربي تحديداً” إلى المكياج الذي يحتاجه الممثل لأداء الدور، فمكياجه الخاص نابع من الدّور الذي يمثله طيلة حياته على الشّعب.. والرئيس لا يخلع رداء الشخصية حين ينتهي دوره بل يصرّ على البقاء داخل الدّور ومثال ذلك حين خُلِع مبارك من رئاسة الجمهورية لم يتخلَّ عن دوره كرئيس كما لم يتخلّ مؤيدوه عن معاملته كرئيس ويظهر ذلك في تمييزه عن العامة في السّجن والمحاكمة.. أمّا حافظ الأسد فقد مثّل الدّور حتّى نهاية الشوط تماماً كما رسمته إسرائيل والإدارة الأمريكية وبقي عند كلمته بتوريث ابنه ليستمر وجوده “إلى الأبد”.

الازدواجية والخروج عن النّص:

فيلم السّادات أنتج عام 1983 من وجهة نظر أمريكية يظهر في بدايته مجند مصري وآخر إسرائيلي يرفعان العلمين ويحيّيان ذكرى شهداء الحرب ويتبادلان السّجائر ويتعانقان! المجند المصري لم يكن يصدق أنّ هذا المشهد يمكن أن يحدث، الإسرائيلي يقول له: “إنّهم أعطوكم كلمتهم”. المصري يقول: “لم يكن أحدٌ يُصدِّق ذلك سوى السّادات رحمه الله”.

الإسرائيلي يقول: “ليقدّس الرّب ذكراه”.

يُظهر الفيلم المجند المصري مشوّه بذراع واحدة، متوتر ومرتبك.. والإسرائيلي بكامل قوته وصحته وثقته بنفسه لكنّه يعترف أنّه لولا بيجن والسّادات ربّما كان ميتاً الآن هو وأبنائه.

العناق الحار بين الاثنين عناق محبة وأخوة.. هذا ما أراده السّادات والغرب من عملية السّلام وهذا ما يؤمن به الممثل الحالي “السيسي” وأزلامه.. حين خرج عن النّص أثناء خطابه في الأمم المتحدة، وكرّر عبارة “أمن المواطن الإسرائيلي جنباً إلى جنب مع أمن المواطن الإسرائيلي”! ” بدل أن يقول أمن المواطن المصري.

مع ذلك حين هوجم محمد صبحي بسبب دعمه لنظام بشّار الأسد برّر مجيئه إلى دمشق بقوله: “إنّها ليست إسرائيل”. وهذا من الازدواجية التي يعيشها الممثل فيخلط بين التّمثيل والواقع وبين ما يراد منه أن يفعل وما يفعله بشكلٍ تلقائي حيث ينسى دوره فيخرج عن النص.

النص يقول إنّ السّادات وضع حجر الأساس لمبارك والسيسي وكلّ من والاهم وإسرائيل قِبْلتهم جميعاً، والممثل محمد صبحي يعرف هذا ويدركه مع ذلك وقع في الارتباك حين أراد تبرير الخطأ الذي اقترفه..

حين قام أحمد زكي بتقمص شخصية عبد الناصر في فيلم “ناصر 56” كان أميناً لشخصية عبد الناصر إلى أبعد حد، لكن ليس من الضروري أن يلتزم الممثل بتقديم الشّخصية كما هي أو يقلّدها بأفعالها، فهناك إملاءات من الجهة المنتجة للفيلم تحدد الهدف منه والرسالة المراد تقديمها للجمهور الغربي والأمريكي. فيلم السّادات لم يقتصر على حياته بل قُدِّم فيه كلّ أعضاء مجلس قيادة الثورة وأهمهم في ذلك الوقت جمال عبد النّاصر، وليس هامشياً أن نذكر أنّ الفيلم مليء بالمغالطات واللقطات المفبركة التي تهدف إلى تلميع صورة السّادات وإظهاره الرجل الوطني الذكي الذي يعرف كيف ينتهز الفرصة في الوقت المناسب، بالمقابل قام الممثل والمنتج البريطاني “جون ريس ديفيس” بتحميل شخصية عبد النّاصر روحاً أخرى، انفعالية، حقودة، غبية وطائشة وديكتاتورية، بالإضافة إلى تشويه متعمد لنص خطابه حين أمم قناة السويس وما رافق ذلك.

المتابع لخطابات عبد النّاصر يجد الفرق واضحاً، فقد كان عبد النّاصر شخصاً يتمتع بالهدوء والثقة والقوة والحضور الطاغي الذي يجذب الشّعب، باختصار كانت الكاريزما “الناصرية” سبباً في عشق الملايين لشخصه وغضهم البصر عن أخطائه التي لم يروها أخطاءً في الواقع.  

أمّا الممثل الأمريكي الذي أدّى شخصية السّادات، فقد قدّم شخصاً آخر أيضاً أو لنقل إنّه قدّم الفكرة المراد تصديرها للجمهور الغربي عن صانع السّلام.

لذا يبقى الرئيس ممثلاً لكنّ الممثل _الذي يؤدي دور الرئيس على الشّاشة_ لن يصبح رئيساً يوماً ما.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه