المقاربة التركية في أزمتي “برنسون” و”خاشقجي”

عقب إعلان محكمة تركية في مدينة إزمير الإفراج عن القس الأمريكي أندرو برنسون المحتجز منذ ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٦ بتهمة التعاون مع تنظيمي فتح الله غولن، وحزب العمال الكردستاني PKK، وذلك رغم حكمها بسجنه ثلاث سنوات وخمسة وأربعين يوما، إلا أنها احتسبت فترة احتجازه من العقوبة وقررت وقف التنفيذ في الفترة المتبقية، مع رفع الإقامة الجبرية وتخييره بين البقاء في تركيا أو مغادرتها.

عقب ذلك حاول البعض الربط بين تلك الانفراجة في أزمة تسببت في توتر العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة على مدار الأشهر الماضية، وبين تطورات أزمة اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي، عقب دخوله قنصلية بلاده في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.

الربط قام على فرضية مفادها أن تركيا سارعت بإطلاق سراح برنسون، طمعا في دعم ترمب لها في أزمة خاشقجي، وحتى لا تبقى تركيا وحيدة أمام السعودية التي يمكنها حشد رأي عام دولي باستخدام سلاح المال.

فرضية قد يكون ظاهرها مقبولا، لكنها لن تصمد مع سبر مضمونها، فالحديث عن قرب الإفراج عن الراهب الأمريكي تكاثر في الإعلام عقب اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي ..
ومنذ ذلك الحين والجميع يترقب جلسة الثاني عشر من أكتوبر وسط توقعات كبيرة بالإفراج عن برانسون، خاصة أن المحكمة قررت في وقت سابق إخراجه من السجن المحتجز فيه لدواع صحية ووضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله بإزمير، ما عُدَّ حينها مؤشرا على قرب الإفراج عنه.

كما أن المقاربة التي تعاملت بها تركيا مع الملفين تعكس أن المسارين مختلفان تماماً، ولا يمكن لأي منها أن يؤثر فى المسار الآخر أو يحدد مصيره.

برنسون: حديث المصالح والكرامة   

رغم أن برنسون محتجز منذ ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٦ فإن ترمب لم يثر قضيته إلا قبل عدة أسابيع تزامنا مع انطلاق حملة الدعاية لانتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ الأمريكي، إرضاء لليمين الإنجيلي ورغبة من ترامب في ضمان أصواتهم لتأثيرهم في أوساط الناخبين.

لذا عمد ترمب ونائبه مايك بنس إلى استخدام لغة تهديدية ذات نبرة عالية الأمر الذي قابلته أنقرة بالرفض التام ورد عليه أردوغان على حسابه بتويتر يوم ٤ من أغسطس/آب قائلا : “إن من يظنون أن بإمكانهم ردعنا باستخدام لغة التهديد أو فرض عقوبات لم يعرفوا هذا الشعب بتاتًا، من الواضح أن من يتهموننا بعدم معرفتنا بحيثيات النظام الأمريكي لا يعرفون شيئًا عن تاريخ أمتنا. ونحن لن ننحني بتاتًا لهذا النوع من الضغوطات.”

وعندما تمادى ترمب في تهديد تركيا إن لم تبادر بالإفراج عن برنسون، رد عليه أردوغان يوم ١٠ من أغسطس/آب قائلا: “وإذا كانت المسألة تتعلق بمحاولة إجبار تركيا على تقديم تنازلات من حقوقها السيادية عن طريق تضييق الخناق عليها، فهذا شيء آخر. إذ لن نرحب بأحد في هذا الشأن. كما أن هذه الأمة التي لا تخاف من الدبابات والمروحيات، لن تعبأ بمثل هذه التهديدات”.

ثم اتخذت الأزمة مسارات متعرجة وصلت إلى حد فرض واشنطن عقوبات مالية بحق وزيري العدل والداخلية التركيين، ورسوم جمركية إضافية على واردات الصلب التركية وهي الإجراءات التي ردت عليها أنقرة بالمثل.

واعتمدت المقاربة التركية في التعامل مع أزمة برانسون على المحورين التاليين:

  • الحفاظ على كرامة تركيا وعدم السماح بإظهارها كدولة من “جمهوريات الموز” أو أن تتحول إلى “كارت انتخابي” يستخدمه ترمب في تعظيم مكاسب الحزب الجمهوري خلال التجديد النصفي لمجلس الشيوخ.
  • استخدام ملف برنسون للحصول على مكاسب في الملفات ذات النزاع بين الطرفين والتي تعد بالنسبة لأنقرة أولوية كبرى وفي مقدمتها استرداد فتح الله غولن، وتسوية ملف قضية بنك “خلق” والإفراج عن هاكان أتيلا، النائب السابق لمديره العام، وتنفيذ خريطة الطريق المتعلقة بمدينة منبج السورية وإخراج تنظيم وحدات الحماية الكردية YPG من المدينة، إضافة إلى التوصل لرؤية تتماهى مع محددات الأمن القومي التركي فيما يتعلق بمنطقة شرق الفرات ومنع تكوين أي كيانات انفصالية هناك، وصولا إلى حل ملف طائرة F35 ذات الإنتاج المشترك بين عدة دول ومنها تركيا، والتي أوصى الكونغرس بتعليق تسلميها لتركيا بسبب إصرار أنقرة على الحصول على منظومة الدفاع الصاروخية S-400 روسية الصنع.

ورغم أن التصريحات الأمريكية الأولى التي أعقبت الإفراج عن برنسون نفت وجود صفقة من أي نوع، فإن صحيفة نيويورك تايمز أشارت إلى احتمالية تسوية ملف بنك خلق والإفراج عن أتيلا، ولعل التصريحات الإيجابية التي خرجت من ترمب في أعقاب الإفراج عن القس تؤشر إلى ذلك الاتجاه.

خاشقجي … الأمل في تصحيح المسار السعودي

في أزمة اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي اختلفت المقاربة التركية تماما، فبينما اختلط السياسي بالقضائي في أزمة برنسون، برز المسار القضائي في أزمة خاشقجي بشكل واضح، مع بقاء الأهداف السياسية حاضرة لكن في خلفية المشهد.

وبينما انتظر الجميع تصريحات أردوغان في ختام الاجتماع التشاوري لحزب العدالة والتنمية بأنقرة، وذلك عقب اختفاء خاشقجي بحوالي يومين، خاصة وأن كثيرا من الإعلام التركي استبق الكلمة بالتأكيد على أن أردوغان سيفصح عن تفاصيل الحادث، فإن الكلمة خلت تماما من أي إشارة إلى الحادث.
لكن وفي تصريحات مقتضبة للصحفيين أثناء خروجه من قاعة الاجتماع، أكد الرئيس التركي أنه يتابع الحادث بنفسه، وأنه يأسف لما حدث، معربا عن أمله أن تشهد القضية تطورات إيجابية.

كان واضحا من ذلك السياق وما تلاه من تطورات، أن القيادة التركية بنت استراتيجية مختلفة لما توقعه كثيرون في التعاطي مع الأزمة تمثلت في التالي:

  • عدم السماح بتحويل ملف الاختفاء إلى مادة للاستخدام السياسي والحرص على إبقائه في إطاره القانوني.
  • رغم أن العلاقات التركية السعودية وصلت إلى حدودها الدنيا فإن أنقرة حرصت على عدم انزلاقها إلى مزيد من التدهور، لذا ظلت المعالجة التركية سواء في شقها السياسي أو الإعلامي تدور في هذا الإطار ولم نشهد أي هجوم على القيادة السعودية.
  • حشد الرأي العام العالمي وراء تركيا عبر تسريب ما توصلت إليه جهات التحقيق إلى وسائل الإعلام التركية والعالمية خاصة في الولايات المتحدة وأوربا لتشكيل رأي عام ضاغط على صانع القرار للتعاطي الإيجابي مع ملف الاختفاء.
  • لم تغلق أنقرة باب التعاون مع الرياض، ورحبت بتشكيل فريق تحقيق مشتركة منفصل عن فريق التحقيق التركي، رغم ما توفر لها من أدلة ترقى إلى درجة اليقين تؤكد مقتل خاشقجي داخل مبنى القنصلية السعودية بإسطنبول.
  • تأكيد تركيا بين الحين والآخر أنها لن تتسامح مع الجريمة التي تشكل انتهاكا لسيادتها وأمنها الداخلي، وأنها لن تسمح بتحويل أراضيها إلى ساحة لتصفية الخلافات السياسية العربية، الأمر الذي تطابقت فيه رؤية الحكومة والمعارضة على حد سواء.

لكن وبالرغم من حرص تركيا على تقديم “القانوني” على “السياسي” فإن المتمعن في المقاربة التركية في التعاطي مع الملف، يلحظ رغبة تركية واضحة في خلق رأي عام دولي ضاغط على السعودية، قد يقودها إلى تصحيح المسار الذي أقحمها فيه محمد بن سلمان بإيعاز من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد.
ذلك المسار الذي أفرز سياسات أضرت تركيا كثيرا، سواء في تورطهما في ملف الانقلاب الفاشل، أو العبث في الفناء الخلفي لتركيا، من خلال الدعم السخي الذي تقدمه السعودية لميليشيا الحماية الكردية بالتعاون مع الجانب الأمريكي، إضافة إلى حملات الإساءة – التي وصلت إلى حد التطاول- ضد أردوغان في وسائل الإعلام المقربة من ولي العهد داخل المملكة وخارجها.

هذه الساسة العدائية من جانب ابن سلمان وفريقه تجاه تركيا وقيادتها، لم تعد سراً فالكاتب التركي محمد آجات في مقال له بصحيفة يني شفق يقول: يعلم الجميع أنه بقدر وجود ساعين لدفع العلاقات بين البلدين إلى التدهور داخل العائلة المالكة السعودية، فإن هناك كذلك من يجتهد للمحافظة عليها في مستوى جيد. كما لا يخفى على أحد أن فريق ابن سلمان يهاجم تركيا أحيانا من خلال وسائل الإعلام المستأجرة وأحيانا أخرى بتصريحات مزعجة مباشرة.

وبالرغم من ذلك حرصت تركيا طيلة الفترة الماضية على انتهاج سياسة “ضبط النفس” تجاه تلك التصرفات “الطائشة” حرصا منها على عدم زيادة تمزق العالم الإسلامي، وعدم تعرض السعودية لأي هزات قد تؤدي إلى تحللها، وخطورة ذلك على مجمل أوضاع المسلمين لوجود الحرمين الشريفين.

لذا يبدو أن المقاربة التركية ترى أن حادث “خاشقجي” المأساوي يجب أن يضع حدا لسياسات ولي العهد، إن لم يكن بتغييره عبر إجراءات من داخل الأسرة الحاكمة، فعلى الأقل كبح جماحه وتقليم أظافره.  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه