المستقبل السياسي للسيسي

د. أحمد غانم*

ما هو مستقبل نظام السيسي؟ بل ما هو المستقبل السياسي للسيسي نفسه؟ ذلك هو السؤال الذي يعكف علي الإجابة عليه الكثيرون من الكتاب والباحثين والمحللين السياسيين المتابعين للشأن المصري المعقد بامتداداته الإقليمية والعالمية.
ولكن هل يمكن فهم ما يحدث في مصر دون فهم شامل للمنظومة السياسية في المنطقة؟ وهل  يمكن الوصول إلى القاهرة دون المرور على واشنطن والرياض وأبي ظبي وتل أبيب ودون العروج على الدوحة وأنقرة؟ …
كرقعة  شطرنج  في غمار مباراة حامية تتغير معالم الشرق الأوسط ومراكز قوتها وتحالفاتها في كل ثانية : يموت “الملك” في الرياض فيتلعثم “العسكري” في القاهرة ويصهل “الحصان” في الخليج وتتحرك “الطابية” في أنقرة..شبكات متقاطعة ومتوازية من التحالفات والتوازانات تبدو للعين غير المدربة راسخة ثابتة ولكنها في الحقيقة سائلة متدفقة وأحيانا لا يمكن التنبؤ بمسارها الحقيقي!
لهذا التعقيد الخارجي ولإمكانية تغير خيارات المعارضة الإسلامية في مصر التى بدأت تتململ من سلميتها المفرطة في وجه نظام قمعي لم يسبق ضراوة قمعه أي قمع سابق في مصر الحديثة بحسب تقارير منظمات حقوق الإنسان الكبرى – لكل هذه التعقيدات- نجد أن الأمر اصعب بكثير من أن تحسمه دراسة أكاديمية أو تحليل سياسي مبسط.
الشيء الوحيد المؤكد هو أن الصراع السياسي في مصر قد خرج عن محليته منذ زمن طويل وأصبح مرتبطا بصراعات سياسية كبرى في المنطقة تريد إعادة تشكيل المنطقة ورسم خريطة “سايكس بيكو” سياسية جديدة تحل محل خريطة “سايكس بيكو” الجغرافية القديمة التى قسمت مناطق النفوذ في الشرق الأوسط عام 1916 والتى انتهت صلاحيتها وأصبحت حدودها مجرد تراب وخطوطا على خريطة لا أهمية لها  نتيجة تغير الظروف السياسية واختلاف طبيعة الصراعات الجديدة في المنطقة وانهيار القوى السياسية القديمة التى رسمتها واستبدالها بقوى دولية وإقليمية جديدة.
وفي الوقت الذي بدا خطاب المعارضة المصرية مغرقا في محليته وأدبيات الصراع القديمة  المحصورة في الحدود الجغرافية المصرية كان السيسي سباقا لتصدير خطاب سياسي براجماتي يخاطب فيه القوى الإقليمية والدولية الجديدة التى تتصارع لتشكيل “سايكس بيكو” الجديدة  ليظهر نفسه بمظهر “الخيار” الأكثر أمنا لهذه القوى الجديدة للحصول على دعمهم في الجلوس لأطول فترة ممكنة على كرسي الحكم في مصر!
فقط بعض فصائل المعارضة المصرية  المغرقة  في خطابها القديم هم من يظنون أن خطابات السيسي مادة للسخرية والضحك ولكن الـ”آباء المؤسسون”  لـ “سايكس بيكو” الجديدة يرون في خطابات السيسي ضمانات جيدة ورسائل متوالية  تجعلهم يباركون بقاء السيسي في السلطة ويباركون دعمه سياسيا وعسكريا من واشنطن وماليا من الخليج…فمن تأكيد خطاباته وحواراته على حفظ أمن إسرائيل إلى تهجير أهل سينا إلى الدعوة إلى “ثورة على النصوص الإسلامية” إلى التلويح بجاهزية الجيش المصري لحرب “داعش” تتجدد شرعية السيسي عند “الآباء المؤسسين”  لـ “سايكس بيكو” الجديدة متغاضين عن تلال التقارير الصادرة عن منظمات حقوقية عالمية والتى تكشف انتهاكات غير مسبوقة لحقوق الإنسان في مصر وعن تسبب القمع في زيادة  أعداد المنضمين لما يسمى بـ “ولاية سيناء” أو حركة “أنصار بيت المقدس” قبل تغيير اسمها وإعلانها الولاء للبغدادي كـ “ولاية” في “خلافة” دولة “العراق والشام الإسلامية”..كل ذلك لا يهم طالما سيظل السيسي مؤمنا بقواعد “سايكس بيكو” الجديدة التي تتشكل!
لا أدري هل هو ذكاء سياسي من السيسي أم من شركات الاستشارات السياسية الأمريكية التى ترسم الخطوط السياسية الأساسية لخطابات السيسي نظير ملايين الدولارات؟ أم هو قلة حيلة من المعارضة الإسلامية التى فشلت في التواصل عالميا مع أمريكا أو حتى إقليميا مع “ملك جديد” يرسل رسائل سياسية  لا أعتقد أن المعارضة الإسلامية قد فهمتها حتى الآن…ولكن ذلك لا يهم الآن لأن المحصلة النهائية هي أن السيسي ربط نفسه بالتغيرات السياسية الجديدة وبمصالح القوى الجديدة التى تتقاسم النفوذ في شرق أوسط ما بعد الربيع العربي بينما ظلت المعارضة الإسلامية محاصرة وغير قادرة على طرح بديل عملي لنظام السيسي أو خطة طريق محددة تجعل القوى العالمية تأخذها مأخذ الجد.

والسيسي نفسه قد أيقن أن ذلك الارتباط قد تم بنجاح فلم تعد حتى أذرعه الإعلامية تأبه بما يكتب ضده في افتتاحيات شديدة الانتقاد له ولسياسيته في مجلات وجرائد عريقة مثل “الواشنطن بوست” أو”النيويورك تايمز” بعدما كانت نفس الأذرع الإعلامية تقيم الدنيا ولا تقعدها إذا وجه للسيسي ولو انتقاد بسيط في بداية الانقلاب لدرجة اتهام “النيويورك تايمز” العريقة بتلقي أموالا من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين (العدو التقليدي للسيسي)!..بل وتمادى نظام السيسي في تحدي منظمات حقوق الانسان الأمريكية والغربية بمنع دخول قادة أكبر منظمة حقوق انسان لمصر حين منع دخول قادة منظمة “هيومان رايتس واتش” من إعلان تقريرهم عن مذبحة رابعة في القاهرة..وأخيرا تم حتى منع الأكاديمية الأمريكية المعروفة “ميشيل دن” من دخول مصر في تحد صريح للرأي العام العالمي..
فالسيسي قد علم أن ارتباطه قد أصبح ارتباطا عضويا بسادة “سايكس-بيكو” الجدد والذين لن يتخلوا عنه الآن -على الأقل- من أجل حقوق الانسان في ظل اشتعال معركة تقسيم النفوذ التي تدور رحاها في المنطقة!
ولكن رهان السيسي  على الدعم السياسي والاقتصادي الخارجي من سادة “سايكس-بيكو” الجدد فقط هو رهان تحفه مخاطرعدم الصمود في مواجهة تحديات الواقع المصري الداخلي الذي يعيش اقتصاده على المعونات، ويواجه بالفعل أزمة اقتصادية طاحنة  في ظل التراجع غير المسبوق لقيمة الجنيه أمام الدولار وانحسار الدخل السياحي وارتفاع معدلات البطالة وعزوف المستثمرين عن مصر في ظل حالة الانقسام السياسي غير المسبوق وإعادة المعارضة التفكير في جدوى السلمية وتعالي الأصوات بضرورة تواصل أمريكي وسعودي مع المعارضة المصرية وانهيار جبهة 30يونيو السياسية بعد تهميش التيار الليبرالي والعلماني الذي استخدمه العسكر كواجهة مدنية للانقلاب، والاعتقالات العشوائية، وتوحش الشرطة، وتزايد معدلات العنف السياسي، واستفحال أمر التنظيمات المسلحة في سيناء، وغيرها من المشاكل الكبري الداخلية التى أصبجت تمثل تحديات خطيرة لا تهدد السيسي فقط كشخص  ولكنها تهدد النظام العسكري الحاكم لمصر منذ 1952 وحتى اليوم.

ولهذا فعلى من يريد أن يبحث مسألة  مصير السيسي في مصر أن يدخل من هذا المدخل البحثي ليضع النقاط فوق الحروف التى مازالت تهتز بقوة منذ أن أشعل الشاب بوعزيزي النار في نفسه في أحد اسواق تونس وحتى وقف البغدادي يعلن نفسه خليفة للمسلمين على أحد منابر الموصل..والتى مازالت تهتز ولم تستقر بعد رغم المظهر الخارجي الخادع بأن الأمور استقرت!

_____________________

*كاتب مصري مقيم في واشنطن 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه