المرزوقي من الرئاسة إلى الزعامة

د. نور الدين العلوي*

اكتمل مسار نقل السلطة شكلا في تونس يوم 31  ديسمبر  2014 .وغادر الرئيس  المنصف المرزوقي القصر الرئاسي من الباب الكبير وببرنسه الأصيل.  تحفه أرواح أنصاره  بعيون دامعة وقلوب  مكلومة ولكن بحقد يلمع تحت الأهداب. يوجد في الأمر خدعة   كاسرة .  لقد أخرجته من الحكم أصوات الموتى   لكنه انتمى بخروجه العزيز إلى أرواح الإحياء النابضة بالألم . لقد كان مشهد نقل السلطة  مشهدا ديمقراطيا في ظاهره لكنه مغشوش في باطنه. لذلك يفرض مقارنة  لا بد منها لنعرف كيف نضع الحدث في سياقه السياسي ولذلك سنقارن ولنا الحق بخروج من قبله.لنعرف مزية الديمقراطيين على تقاليد الحكم.
خروج بورقيبة .
الجميع في تونس يتذكر صبيحة السبت 7 نوفمبر 1987  عندما أفاق الجميع على البلاغ رقم واحد الذي نقل السلطة في تدبير ليلي إجرامي بامتياز. انقلاب بشهادة طبيبة  أمضيت برغبة أو تحت التهديد  واخرج بورقيبة مرغما من قصره الذي بناه لنفسه ليموت فيه. وقد مات رمزيا عندما أخرجه أبناؤه الذين رباهم على السياسة مطعونا في عقله وجسده  بعد أن أرغموا بلادا كاملة على القبول به  جثة حاكمة منذ أول سبعينات القرن العشرين.
عاش بورقيبة  متمسكا بسلطته الشخصية على كل شيء  كأنه الإله الذي صنع البلد وبث فيه من روحه. كانت حاشيته تعرف هوسه بالسلطة  وكانت تماشيه في هوسه  فرحة بعجزه  مستثمرة في ذلك العجز  لتدبير أمورها تحت  جثة الرجل المريض  الذي كلما انهار  ضخوا فيه من ولائهم  ليقدموا للشعب صورته الشابة تعزية لهم عن نهاية  كارثية كان يتقدم إليها وهم يصفقون له ويجمعون الفيء.
خرج من القصر تحت جنح الظلام في سيارة إسعاف لزوم مصداقية  الشهادة الطبية  أمضاها اقرب أطبائه إليه. وحسم أمره سياسيا وأدخل في النسيان  حتى مات أرذل ميتة. منع من الزيارة  ومنع من زيارة قبري أبيه وأمه وحوصر  في ملحق بيت الوالي(المحافظ المحلي) كخادم ذليل منسي في انتظار  نهاية لم يسرعها طبيب مشفق. وكانت جنازته  تحت  عصا البوليس لتمنع آخر أنصاره من البكاء عليه إلا في ركن معزول عن أنظار الشرطة. كان زعيما وانتهى مخزيا  أرخص من كلب  حراسة فقد قدرته على النباح.

 خروج اللص الانقلابي.
 لم يستغرق الأمر  أكثر من ثلاثة أسابيع من الحركة في الشارع  ليهرب الخليفة الانقلابي هروبا مخزيا مطرودا من شعبه. لقد سرق سلطة بخديعة  وحكم بالخديعة  ربع قرن دمر فيها روح البلد واركسه إلى قطيع سائم يتصيد رزقا رخيصا بلا كرامة ،وظف كل  آلة الدولة ليحمي سلطانه الغاشم فجيّش الإعلام  والجامعة ومؤسسات الدولة المختلفة لتخدمه ثم لتتحول إلى آلة   توليد أرزاق لأسرته وأنصاره الذين  سرقوا أموال الناس وأرواحهم. وكان خروجه مخزيا  وصار اسمه عار على السياسة والاجتماع.  جاء لصا وخرج لصا وحكم بلصوصية فلم يدافع عنه إلا لصوص  كانوا يجدون في إثره فتات رزقهم.
 خروج الرئيس المرزوقي على موقع الزعيم المرزوقي.
اليوم خرج المرزوقي من القصر  خروج زعيم شعبي انهي مهمته بنجاح. واستفز كل  أصناف الشماتة من ورثاء من سبقه. فحقروا برتوكول  نقل السلطة ليظهر في أقل الصور مجدا.  قدموا رئيسهم وهم يصرخون غير مقتنعين بأنه رئيس كل التونسيين كأنما ليقنعوا أنفسهم أولا بان الأرقام لا تخدمهم . حاصرته الكاميرا لكي يظهر صغيرا  لكن البرنس التونسي فرزه من الحاشية الجديدة التي تفرك أصابعها لغنيمة قادمة. لكن جمهوره كان قدام القصر  رغم الثلج الذي نزل بالعاصمة. بشكل  يوحي بان المرحلة تدخل ثلاجة الفعل الثوري. جاء أنصاره يبكون ويقدمون له الورد ويضعون بين يديه المصحف الشريف  عهدا على مواصلة الفعل الشريف الذي جمعهم به.  حزن كبير لا رفضا لنقل السلطة ولكن لأن الأمر تم على أساس خديعة أخلاقية  هي ثمرة اللعب النظيف مع محترفي تزييف الانتخابات. الإحساس بالخديعة كان قاسيا جدا.
من الرئاسة إلى الزعامة.
لقد صار لتونس غانديها ومنديلتها الذي تشرب من معين فكره الطليعي البناء للديمقراطية.تحرر الرجل اليوم من المنصب الذي كبله عن الفعل الثوري في سياق لم يكن يملك أن يغيره بشكل انقلابي. لقد ورطته المرحلة كما كل الديمقراطيين في بناء الديمقراطية بوسائلها فاحترم المؤسسات وراعي القانون لكن في الديمقراطية فقد الكثير لأن خصمه لم يكن يلاعبه على نفس الميدان و بنفس الوسائل.سيظل السؤال معلقا  هل كان هذا هو المصير الذي ينتظر الثورة التي أوصلت المرزوقي إلى سدة الرئاسة فلم يكمل مشروعه كما خطط لله. يمكن أن نجد له ما يكفي من الأعذار  لكن الرجل لم يكن يحكم وحده. لقد كان ضمن شبكة لم تحسن إدارة المرحلة بشكل ثوري فارتدت عليهم جميعا وفقدوا موطئ قدمهم فيها وعادوا اليوم إلى حالة الدفاع عن الحد الأدنى الثوري بوسائل الثورة المدنية وهذا مجحف في حقهم جميعها لكنهم جميعا مسؤولون عن  اللحظة التي لم يحسنوا إدارتها.
أخطاء المرحلة كانت حاسمة.والمرزوقي يتحمل جزءً من الفشل لكن في أخطاء ممارسة السلطة تبين البديل المنتظر. لم يكن للثورة برنامجها  الذي تنفذه ببصيرة متحكمة. ولم يكن للثورة قيادتها التي تضع هذا البرنامج. لقد تمت إدارة المرحلة بشروط من أسقطته الثورة وبتراتيبها القانونية. لقد سيطرت فكرة استمرار الدولة  على فكر من تصدى للحكم وكان المقتل هناك فشروط الدولة العميقة فرضت على القادمين الجدد سقوفا وطيئة جدا خضعوا لها فأخضعتهم ودمرت تجربتهم. لم يكونوا جاهزين للحكم ففشلوا في إنقاذ الدولة فعادت إلى متملكيها القدامى عندما أفلحوا في إدارة  المعركة بوسائل غير ديمقراطية.
اليوم تبين للناس مصدر الخطأ فشرعوا في تنسيب الأخطاء وإرجاعها إلى أسبابها.لقد عرفوا المطلوب لكن بعد فوات أوان انجازه وبعد فقدان وسائله. لكن من ضمن الوسائل تبلورت الأهداف و برز الزعيم الذي يمكن أن يقود ويوجه.لقد منحت الزعامة نفسها لرجل صادق وغيور على الثورة.
هل هو خطاب التعزية  أم خطاب الاستئناف؟
يوجد شجن كبير يقود تدبيج هذا النص. لكن وراء الشجن قناعة أن المسار  في عفويته انتهى حيث تنتهي العفوية ومنها ينبع مسار جديد مسار تصحيح وإعادة بناء فعل ثوري طويل النفس سيسير بصعوبة على أشواك يزرعها في كل لحظة نظام يعرف كيف يعطل ولا يعرف كيف يبني. مسار معقلن طبقا لأهداف الثورة  التي بدأ النظام القديم العائد بابتذال أرواح شهدائها و تبخيسهم.
مشهد الخروج المشرف لخص كل شيء زعيم يولد لثورة بلا قيادة. انتفى مسار القائد الجثة والقائد اللص وبدا مسار الزعيم الذي يقف عند واجبه ويعرف شكليات الديمقراطية لأنه يستبطن فعلها في الزمن.ويعرف كيف يدفع الكلمة في بطن الظلماء لتحبل وتلد نور

____________________
كاتب تونسي واستاذ علم الاجتماع

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه