الكوميديا والتّهريج السّياسي

 

عرفت الكوميديا منذ ظهورها على أنّها انتقاد لظواهر اجتماعية وسياسية قبل أن يكون الهدف منها الإضحاك. وتقوم على تضخيم الحدث أو التقاط جانب منه يضحك الجمهور وغالباً ما تكون وليدة اللحظة التي يلتقي فيها الكوميديان بالجمهور من دون تحضير مسبق في حال كان اللقاء وجهاً لوجه على المسرح.. وهو ما يسميه البعض خروجاً عن النص.. وقد يكون مبالغاً فيه لدرجة مزعجة وقبيحة

وتصل الكوميديا إلى القمة حين تحقق أهدافها مجتمعة.. الإضحاك، التسلية، الفائدة، إيصال رسالة ما للجمهور.

وقد انتبه النظام الحاكم في معظم الدول العربية لأهمية الكوميديا ودورها الكبير في تخفيف إيقاع المشاكل الاجتماعية على الشعب فاستغلوا ذلك بالتوجه إلى صنع كوميديا “تنفيسية” تمتص غضبة الشعب من أمور دقيقة ومفصلية في الحياة فأصبح دور الكوميديا أشدّ خطراً من القمع السياسي، فهي تقوم على تفريغ الشحنات الإيجابية بتدعيم الحس النقدي بحدود لا تتجاوز السطح وقد تسمح السلطات بزيادة الجرعة كي تشعر المواطن بأنّها تعطيه حريته في التعبير وفي الوقت نفسه تكون قد تحكمت في ردود فعله تجاه الواقع.

كوميديا المسرح والسياسة:

لا شكّ أنّ الريادة في الإضحاك كانت للمسرح المصري وأبطاله الأكثر شهرة عادل إمام وسعيد صالح الثنائي الإشكالي تماماً كالثنائي السوري “دريد لحام ونهاد قلعي”. فكلا الفريقين اعتمد على شخصية “سلطوية” انتهازية مالت لتأييد الطغيان عن طريق خدمة الحكّام بالسخرية من الواقع السياسي والشخصيات السياسية وكانت قمة تلك المسرحيات التي أداها عادل إمام منفرداً عن صديقه سعيد صالح هي مسرحية “الزعيم”

في المسرحية كان عادل الإمام يسخر من الشخصيات الحاكمة بمن فيهم الرئيس لكنّه في واقع الأمر كان يقوم بدور أخطر بكثير من مجرد السخرية وإضحاك الجمهور كان “ينفّس” عن الجمهور نفسه! بينما قدّم سعيد صالح منفرداً أعمالاً سياسية رائعة وتعرّض للسجن ثلاث مرّات الأولى كانت بسبب مسرحية “لعبة اسمها فلوس” حين خرج عن النص وقال عبارة “أمي تجوزت ثلاث مرّات، الأول وكّلنا المش، والتاني علّمنا الغش والتالت لا بيهش ولا بينش”.. وهذه الجملة أشار فيها إلى الرؤساء الثلاثة جمال عبد الناصر والسادات ومبارك.

أمّا الثنائي دريد ونهاد فقد بدأ المسرح السياسي “بمسرح الشوك عام 1968 وكان لتعاونهما مع المرحوم الشاعر محمد الماغوط نقلة نوعية في المسرح السوري ككل.

تربص رجال المخابرات بنهاد قلعي في مقهى الروضة وقاموا بضربه علناً ونقل إلى المستشفى في حالة صعبة أثرت على مركز النطق لديه ولم يعد يستطيع المشي بشكل جيد لكنه تابع عمله في المسرح.. بينما تابع دريد لحام تملقه للسلطة حتى وصل إلى مرحلة التهريج بعد وفاة نهاد قلعي والشاعر محمد الماغوط فصار يمثل مسلسلات تافهة تشبهه تماماً.

المونولوج:

تراوح المونولوج بين الأغنية والنكتة وتقليد الفنانين.

عبر تاريخ هذا الفن الكوميدي اشتهر العديد من الفنانين وأبرزهم الفنان محمود شكوكو الذي عرف بزيه المميز وصنعت له لعبة على شكله، وقد أحيا فن الأراجوز وأبدع في أغانيه الناقدة.

أمّا الفنان “سيد الملّاح” فقد أبدع بأدائه المميز في تقليد الفنانين ووقفاته بين أشواط الغناء التي يتحدّث فيها إلى الجمهور معتمداً على ردّة فعل الجمهور حول “القفشات” التي يلقيها أثناء الغناء.

وعاصره الفنان أحمد غانم الذي اشتهر بإلقاء النكات خاصة في شهر رمضان وقد تمتع بخفة ظل فريدة. هذا الفن يمكن إدراجه ضمن “مفهوم التنفيس” لكن بنوايا حسنة ترجع في أغلبها إلى فطرة الشعب المصري المحب للنكتة.

رسوم الكاريكاتير:

يمكننا إدراج رسوم الكاريكاتير ضمن الفنون الكوميدية فهي فن يقوم في أساسه على نقد الظواهر الاجتماعية والسياسية من خلال الرسم، ورسم الكاريكاتير لا يقل أهمية من حيث التّأثير عن المسرح والسينما وله الأهداف ذاتها ويقوم بالمهام نفسها.. أشهر فناني الكاريكاتير العرب المرحوم ناجي العلي الفنان الفلسطيني الذي اغتيل في لندن وكانت رسومه التي تعبّر عن مواقفه الحادة من الاحتلال إلى جانب القضايا الفلسطينية الداخلية والقضايا العربية سبباً في اغتياله.

وفي هذا السياق أذكر ما تعرّض له الفنان السوري المبدع علي فرزات بسبب رسومه المؤيدة للثورة السورية حين ضربه رجال الأمن وكسروا له أصابعه ورموه في الشارع.

عمالقة التهريج:

الكوميديا التي تعتمد على الإضحاك فقط من دون رسالة تؤديها قد تصل إلى مرحلة هزلية تخرجها من نطاق الكوميديا إلى التّهريج.

بعد إعلان عن برنامج ساخر اسمه “السيناريو” على قناة الأورينت وتضارب الآراء حوله وادّعاء البعض أنّه تقليد سمج لبرنامج باسم يوسف “البرنامج”.. قرّرت أن أشاهد البرنامج رغم أنّني لا أحبّ مشاهدة “همام حوت، الفنان المسرحي السّوري الذي يقدم البرنامج” منذ رأيته لأول مرّة في مسرحية عرضت على مسرح كلية الهندسة في جامعة حلب في ثمانينيات القرن الماضي.. وبعد سماع عدة مسرحيات كان يتناقلها الطلاب على “كاسيتات” منذ ذلك الوقت لم أجد همام حوت ممثلاً كوميدياً بل مهرّجاً وجاءت صداقته لبشار الأسد والنّظام السّوري عموماً لترسخ موقفي من فنه. وعلى الرغم من انشقاقه ووقوفه مع الثورة وتقديمه لهذا البرنامج إلاّ أننّي لم أجد همام حوت قد تطوّر خلال تلك السّنوات فنياً على الإطلاق وما زال يتمتع بتلك الروح الطاردة التي يمكن أن يطلق عليها غليظة بالإضافة إلى تفاهة التقديم والمضمون.. سخرية لأجل الإضحاك فقط!

مواهب كوميدية شابة:

سهّلت السوشيال ميديا للشباب إبراز مواهبهم عبر قنوات التواصل وخاصة اليوتيوب فظهر في الفترة الأخيرة عدد كبير ممن استطاعوا استقطاب متابعين كثر واتّخذوا ذلك العمل مصدر رزق. ومنهم من كان عمله في اليوتيوب طريقاً للظهور على شاشة التلفزيون مثل “جو شو”.. يتمتع جو بحس نقدي مدعوم بفهم لما يجري على الساحة العربية منذ بدء الربيع العربي.. وهو ما يتمتع به معظم الشباب الذين يهتمون بالشأن السياسي العربي.

تبقى الكوميديا سلاحا ذاحدين خطورته تنبع من اليد التي تديره ومن التوجهات السياسية التي تتحكم به

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه