الكمون الثوري و”الزياط” السياسي

كانت أحداث سبتمبر هي الخاتمة لتحركات المعارضة المصرية التي بلغت ذروتها في يناير1977 بثورة الخبز، والعبرة من هذه الذكرى أنه حينما توحدت المعارضة المصرية ضد السادات فقد انتهى.

بالأمس مرت الذكرى السادسة والثلاثين لقرار الرئيس المصري الراحل أنور السادات بالتحفظ على أكثر من 1500 معارض مصري من كل الاتجاهات السياسية كان في طليعتهم (الراحلون) مرشد الإخوان عمر التلمساني وزعيم الوفد فؤاد سراج الدين، والكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، والسياسي القبطي ميلاد حنا. لم يمض سوى شهر واحد على تلك الحملة حتى انتهى حكم السادات برصاصات أحد ضباطه يوم زينته في احتفال السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1981 لتنهي حكما استمر 11 عاما، وكان لديه خطط للبقاء في الحكم مدى الحياة بعد أن عدل الدستور قبيل مقتله ليتيح له ذلك.

نكات على السادات

كانت أحداث سبتمبر هي الخاتمة لتحركات المعارضة المصرية التي بلغت ذروتها في يناير1977 بثورة الخبز والتي وصفتها السادات بانتفاضة الحرامية، واضطر بعدها للتنفيس السياسي بالسماح بتعدد الأحزاب، ثم كانت الموجة الثانية للمعارضة عقب توقيع السادات انفاقية كامب ديفيد عام 1978، والتي انتهت بمقتله، والعبرة من هذه الذكرى أنه حينما توحدت المعارضة المصرية ضد السادات فقد انتهى، ورغم أن نهايته كانت بعمل مسلح يستهجنه السياسيون عادة، إلا أنه وجد له حاضنة شعبية هللت لقتل السادات، ومن عاش تلك الأيام يتذكر فرح المصريين بمقتله، ويتذكر النكات التي أطلقوها على السادات حتى بعد مقتله.

كان السادات يظن أن سيبقى في الحكم لسنوات طويله، وكان كل من حوله مقتنعون بذلك، بل كانت غالبية الشعب مقتنعة بذلك أيضا، ثم جاء مبارك والذي قضى شطر حكمه الأول في هدوء، ثم جاءت المواجهات العنيفة بينه وبين الجماعة الإسلامية منذ مطلع التسعينات، ليضم النظام الإخوان إلى هذه المواجهة منذ منتصف التسعينات في سلسلة من المحاكمات العسكرية، ثم دخلت مصر مرحلة أقرب للكمون منذ مطلع الألفية الجديدة حتى العام 2005، التي شهدت مشاركة كبيرة للإخوان في البرلمان ثم أعقبها تحركات القضاة وتكوين حركة كفاية ومن ثم الجمعية الوطنية للتغيير، واختتمت بمهزلة الانتخابات البرلمانية في 2010 التي انسحبت منها قوى المعارضة، وقد مهدت كل تلك التحركات لثورة 25 يناير.

اليوم وبعد 4 سنوات من الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/تموز 2013  تبدو الحالة الثورية المقاومة في كمون نسبي، فالمظاهرات تراجعت كثيرا رغم استمرارها حتى الآن، وهذا شيء طبيعي بعد مرور 4 سنوات، فحتى في مسابقات الجري يبدأ المتنافسون بمعدلات سريعة ما تلبث أن تتناقص مع مرور الوقت، أضف إلى ذلك تسلل روح الإحباط، وقد صحب تراجع الحراك الميداني في الداخل تراجع في الخارج الذي يعتبر نفسه صدى للداخل، كما أن لدى المصريين في الخارج الآن وخاصة المغتربين منذ فترات طويلة أولويات أخرى تتعلق بمجتمعاتهم المحلية، إضافة إلى أن التحركات القانونية والحقوقية تتعثر في خطاها إما لتواطؤ بعض الحكومات مع رجال السيسي الذين وفرت لهم حصانات خاصة أثناء زياراتهم حمتهم من الملاحقة، وإما لعدم توفر الأموال الكافية لتكليف المحامين وإجراءات التقاضي الدولي، وأخيرا فإن العمل الإعلامي المقاوم ينحت في الصخر بإمكانات محدودة أيضا، ومع ذلك فهو يؤلم السيسي ونظامه.

رسائل قوية

لماذا إذن يخشى النظام هذه التحركات رغم ضعفها الظاهر؟ ببساطة لأنها لا تزال تثبت أن المقاومة مستمرة، حتى لو كانت في أضعف صورها وأنها لم ترفع راية الاستسلام في مواجهة سلطة باطشة تمتلك كل أدوات القوة العسكرية والمدنية، وأنها تمر فقط بمرحلة تراجع أو كمون ثوري، ويمكنها أن تتوهج مجددا حال توفر العناصر اللازمة لذلك، وهي تتجمع الآن مع تصاعد الغضب الشعبي الذي لم يعد مقتصرا على رافضي الانقلاب بل تعداه لكل الفئات الشعبية مع جنون الأسعار وغياب الخدمات، وتصاعد البطالة، ويخشى النظام من التحام هذا الغضب الشعبي الجارف بالغضب الثوري الكامن فيحدث مالا يحمد النظام عقباه.

كما أن استمرار هذا الحراك رغم ضعفه يرسل رسائله القوية للمستثمر الأجنبي وللسائح أن مصر تحت حكم السيسي، وبسبب قمعه وسياساته لا تزال في خطر أمني خاصة مع تصاعد عمليات التصفية الجسدية للمعارضين، وهذا يعني أن الوضع الاقتصادي سيظل متأزما، ولن تدخل إلى مصر سياحة ولا استثمارات حقيقية جديدة، وستظل الكثير من خطوط الإنتاج في المصانع معطلة، ما يعني تفاقم مشكلة البطالة، وبالتالي زيادة الغضب الشعبي.

يمارس النظام كل قسوته، وبكل أدوات القمع التي يملكها لإنهاء أي مظهر للحراك في الداخل والخارج، وحتى يدفع هؤلاء المقاومين للاستسلام ليمكنه إعلان النصر النهائي، ومن ثم استرداد ثقة السياح والمستثمرين الأجانب والمؤسسات الدولية الكبرى، وقد تنوعت قسوة القمع بين تصفيات جسدية للمعارضين جهارا نهارا، وبين حبس وتعذيب بشع في السجون، وملاحقة في الداخل والخارج للمعارضين، وإدراج للمئات بل الآلاف منهم في قوائم الكيانات الإرهابية، وقد بلغت هذه القسوة مبلغا لم يعد حلفاء السيسي في الخارج يحتملونه لأنه سيأتي من وجهة نظرهم بنتائج سلبية، وقد يسرع بالانفجار الذي يخشونه والذي سيدفعون جزءا من ثمنه أيضا، ومن هنا تحرك الحليف الأمريكي لفرملة جموح السيسي عبر وقف جزء من المساعات المالية، وندد نواب في الكونغرس وبعض مراكز صنع القرار والأبحاث وبعض وسائل الإعلام الأمريكيية بانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، ولم يقتصر هذا التنديد على الحلفاء الأمريكان، بل إنه وصل إلى أعز الحلفاء في تل ابيب وهو ما عبرت عنه صحيفة يديعوت أحرونوت يوم أمس.

ضجيج بلا طحن

بالتزامن مع هذا الكمون الثوري – أو ربما على خلفيته – تنشط بعض التحركات السياسية التي يمكن وصفها وفقا للعامية المصرية بـ”الزياط” السياسي، الذي هو ضجيج بلا طحن، إذ تسعى بعض القوى والشخصيات التي تعمل من داخل النظام لاستغلال جولة الانتخابات الرئاسية في 2018 لإحداث تغيير في المشهد السياسي، وتظن هذه القوى أن بالإمكان تغيير السيسي بطريقة انتخابية بعد أن عجزت التحركات الثورية عن ذلك، وتبني هذه القوى آمالها على فكرة الاتفاق على مرشح رئاسي واحد يمثلها، وتصطف خلفه، ولديها ثقة أن الناخبين سيصوتون له نكاية في السيسي، لكن ما يغيب عن هذه القوى أن السيسي لن يسمح أساسا بإجراء انتخابات حقيقية، هو يريد فقط شكلا ديكوريا “يشرعن” من خلاله اغتصابه للسلطة، ولن يسمح لمرشح حقيقي بمنافسته، ولعل فيما يفعله مع زميله أحمد شفيق ورجاله عبرة، فالرجل لا يستطيع ولوج القاهرة رغم انتهاء كل قضاياه العالقة، ورجاله في القاهرة يتعرضون للتنكيل كما يحدث حاليا مع النائب والصحفي عبد الرحيم علي، وأي مرشح محتمل آخريمكن أن يمثل خطرا سيتم اغتياله معنويا على الفور، ولن يسمح السيسي بأي ضمانات حقيقية لنزاهة الانتخابات لأنها ستكون نهايته، وبالتالي فإن أي مشاركة في هذه المهزلة سيكون مشاركة في شرعنة نظام انقلابي، ولن يجني من يشارك فيها سوى الحسرة.

البديل للمشاركة في تلك المسرحية الهزلية التي لن تفرق كثيرا عن هزلية 2014 هو التوحد خلف هدف واحد وهو الخلاص من الحكم العسكري وعلى رأسه السيسي، والتعاون المشترك بين كل الراغبين في الخلاص عبر مشروعات عمل مشتركة في الداخل والخارج، وهنا يمكن للكمون الثوري الحالي أن يجد طاقات جديدة، – ليست فقط في مجرد حركات سياسية ومجتمعية – وإنما في غضب شعبي واسع يحتاج من ينظمه ويعظمه ويوجهه في الطريق الصحيح.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه