القيصر إذ ينتفش عربيا

صورة واحدة لخصت الحكاية، وإلى أين وصل النفوذ الروسي في سوريا، وإلى أين سيصل في غيرها من بلداننا العربية، الصورة لضابط روسي يوقف الرئيس السوري بشار الأسد حتى لا يلحق بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كان متوجها لمخاطبة ضباطه في القاعدة العسكرية الروسية في حميميم السورية يوم أمس الأول.

يشعر القيصر ومعه ضباطه في قاعدتي حميميم وطرطوس بالزهو والانتفاش، وأنهم سادة سوريا، كيف لا وهم الذين أنقذوا حكم بشار الذي كان في مرحلة “الغرغرة”، وكيف لا وهم الذين استردوا بعض المناطق التي سبق أن حررتها الثورة السورية، وكيف لا وهم الذين يتباهون بأنهم الذين قهروا تنظيم داعش؟!

مجرد تابع

لم يكن غريبا إذن أن يمنع الضابط الروسي بشار من التقدم، ليتساوى مع بوتين، أو يزامله على منصة واحدة رغم أن هذا الأخير كان في زيارة لقاعدة على الأرض السورية، وكان على بشار أن يدرك ذلك من تلقاء نفسه، فقد استدعاه بوتين إلى تلك القاعدة، ولم يذهب إليه في القصر الرئاسي، وكان عليه أن يعرف أنه مجرد تابع صغير، مكانه في آخر صفوف ضباط القاعدة التي منحها بنفسه للروس.

يتقاسم الروس الهيمنة على سوريا مع الإيرانيين، والأتراك، لكنهم يشعرون أنهم أصحاب اليد العليا، فقد كان تدخلهم العسكري قبل عامين حاسما في قلب موازين المعركة، ورغم أن بوتين أعلن من حميميم عن بدء عودة قواته إلى موسكو بعد أن نجحت في تحقيق أهدافها، ورغم أن طلائع هذه القوات بدأت بالعودة فعلا، إلا أن الدب الروسي لن يترك قواعده في حميميم وطرطوس بالكلية، بل سيحتفظ بما يراه مناسبا من الضباط والجنود والمعدات التي تضمن له استمرار نفوذه في سوريا والمنطقة.

قاعدة سيدي براني

النفوذ الروسي في سوريا هو نموذج للخطط الروسية في خلق مناطق نفوذ في دول عربية أخرى، واستعادة للدور الروسي القديم إبان عهد الاتحاد السوفيتي والذي كان يعتبر المنطقة العربية واحدة من مناطق نفوذه الاستراتيجي، فإلى جانب سوريا نجحت موسكو في إحياء نفوذها العسكري والسياسي في مصر مستغلة رخاوة النظام الانقلابي الحاكم وحاجته إلى حمايتها، كما حمى نظيره السوري، ومن هنا وجدنا عودة روسية لقاعدة سيدي براني العسكرية (غرب الإسكندرية)، ومن هنا كان التوقيع على اتفاق يسمح لروسيا باستخدام المجال الجوي وقواعد مصر الجوية، كما عقد نظام السيسي عدة صفقات لمعدات وأسلحة روسية، منها طائرات ياك ـ 130 التدريبية ، وطائرات ميل مي 17، وطائرات سو 30 كا (12 طائرة)، وميج 29 (50 طائرة)، و 5 مروحية من طراز تمساح،  والنظام الصاروخي “تور إم2″، ومنظومة صواريخ “إس – 300 بي أم،  وصواريخ كورنيت، وقطع بحرية من طراز “مولينا” P 32، ولدبابات “تي 90، وإذا كانت سلطة السيسي تحاجج بأن هذه الصفقات مهمة لتطوير وتحديث الجيش المصري لمواجهة العمليات الإرهابية في سيناء فإن طبيعة تلك الأسلحة تكذب هذا الادعاء حيث يغلب عليها الطابع الدفاعي، كما أن بعضها لا يتناسب وبيئة المواجهة في سيناء، ونكون مجددا أمام التفسير المنطقي أن هذه الصفقات مثل صفقات الرافال والمسترال الفرنسية هدفها هو شراء الدعم السياسي لنظام السيسي، وهي في الوقت نفسه تعزز النفوذ الروسي في مصر، وما يؤكد تعامل بوتين باستهانة واستهتار مع السيسي كما فعل مع بشار، أنه رفض تحديد موعد لعودة السياحة الروسية لمصر بعد توقفها عقب حادث الطائرة الروسية في أكتوبر من العام 2015، رغم توسلات النظام المصري، وأذرعته الإعلامية، ورغم ضخامة الصفقات التي وقعتها مصر مع روسيا والتي كان أحدثها صفقة بناء المحطات النووية الأربع في الضبعة بتكلفة 30 مليار دولار، ومن علامات الاستعلاء الروسي أيضا استقبال السيسي لبوتين على سلم الطائرة في المطار رغم أن بوتن لم يفعلها معه إبان زيارته لموسكو من قبل حيث استقبله في استراحة منتجعه.

وقاعدة في السودان

من سوريا ومصر إلى السودان أيضا حيث تستعد موسكو لإقامة قاعدة عسكرية على سواحل البحر الأحمر في السودان، وكان الرئيس السوداني عمر البشير قد عرض على الرئيس الروسي إقامة هذه القاعدة خلال زيارته له في منتجع سوتشي يوم 23 نوفمبر الماضي، وبإقامة هذه القاعدة ستكون موسكو قد حققت حلما قديما لها بالتواجد العسكري في أفريقيا، وهو الحلم الذي عجزوا عن تحقيقه لعقود طويلة من قبل.

على غرار قاعدة طرطوس البحرية في سوريا تسعى روسيا لإقامة قاعدة عسكرية في بنغازي، وتستند إلى اتفاق قديم تم توقيعه مع نظام القذافي بقيمة مليار و800 مليون دولار عام 2008، ويسعى اللواء متقاعد خليفة حفتر لتفعيله، وهو يتضمن معدات أخرى منها عشرون طائرة مقاتلة، ومنظومات دفاع جوي من نوع “إس 300″ودبابات من طراز “تي 90″، إضافة إلى تحديث وتطوير 140 دبابة من نوع “تي 72”.

ورغم وجود قرار دولي بحظر توريد السلاح إلى ليبيا إلا أن موسكو ستخرق هذا الحظر استنادا إلى خرقه من قبل الدول الكبرى الأخرى ومنها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا التي تتمتع بحضور عسكري على الأراضي الليبية.

أما في اليمن فرغم أن روسيا تحاول لعب دور دبلوماسي لتسوية الصراع اليمني، مستندة إلى خبراتها في سوريا، وعلاقتها المتوازنة مع أطراف الأزمة، إلا أنها حريصة في الوقت ذاته على إقامة قاعدة بحرية تعزز بها نفوذها في منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وتخدم طموحاتها الجيواستراتيجية في الشرق الأوسط وهو طموح قديم لدى الروس.

الدب الروسي

هذه المساعي الروسية لإقامة قواعد عسكرية برية وبحرية في العديد من الدول العربية، والتي يواكبها صفقات تسليح روسي لدول المنطقة، وصفقات اقتصادية مدنية، تعيد النفوذ الروسي السياسي والعسكري بقوة إلى المنطقة، ورغم أن القواعد التي أقيمت أو تلك التي لا تزال قيد البحث جاءت بطلب من حكومات تلك الدول، كما هو الحال في سوريا ومصر والسودان، فإن من المحتمل أن تكرر روسيا مع تلك الدول ما فعلته مع أفغانستان من قبل التي ظلت تسيطر عليها لمدة عشر سنوات قبل أن تتمكن الفصائل الأفغانية من طردها، فالدب الروسي حين يحل بمكان لا يتركه بسهوله.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه