القدس 1948 – 2017ما بين الخيابة والخيانة

 الخيانة هي المظلة الكبرى التي استمرت مرفوعة فوق رؤوس كل العرب أثناء تعاملهم مع كارثة الاستيطان الصهيوني في فلسطين كمدخل للقضاء على الأمة العربية كلها وفرض الهيمنة الصهيونية عليها. تم وضع قواعد الخيانة العربية عام 1948 وتم تتويج البناء عام 2017 بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وما بين التاريخين كان الحكام العرب يشيدون طوابق الهزيمة والانهيار بهمة وخيانة غير مسبوقة تحت حماية النخاسين الصهاينة بينما تقع الشعوب تحت السيطرة الاستعمارية تدور في دائرة صراع البقاء والجهل والمرض والتناحر بغير أسباب.

  • 1948 سذاجة أم خيانة؟

الظاهر في موقف الأنظمة العربية من عام 1948 م حتى الآن هو الرفض للمشروع الاستيطاني اليهودي، والذي يبدأ بالشجب وينتهي في أقوى حالاته بالمواجهة العسكرية النظامية وهي الحالة التي توقفت تماما بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1978. إلا أن المتابعة تفرض علينا حالة قوية من الشك في هذه المواقف من خلال العديد من الملاحظات سنبدأها في فلسطين والمنطقة العربية من عام1948 بعد مقدمات تبدأ من عام 1914 يعرفها معظمنا تتعلق بوضع فلسطين تحت الحماية البريطانية وأحداث الحرب العالمية الأولى ووعد بلفور عام 1917وقرار التقسيم عام 1947 عقب الحرب العالمية نهاية بـ14 مايو (أيار) 1948 عندما أعلن المجلس اليهودي الصهيوني في تل أبيب قيام دولة إسرائيل في فلسطين، وثارت الشعوب العربية وانتفضت كل الفئات الشعبية في الدول العربية على نحو مشابه لنفس الغضبة الشعبية الآن بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل مع اختلافات تتعلق بهيمنة النظم الحاكمة الديكتاتورية الآن وتعمق علاقاتها ومصالحها بالصهيونية من خلال رحلة تاريخية معقدة طويلة. ما علينا، في 26 يوليه 1948 وعقب الإعلان عن دولة إسرائيل بأيام أعلنت  حكومات الدول العربية الحرب على العصابات الصهيونية في حين بدأت إسرائيل تكوين أولى قواعد الدولة بإعلان جيش الدفاع الإسرائيلي بدأت الحرب عام 1948 بين جيوش 9 دول عربية كبرى هي مصر والأردن والعراق وسوريا ولبنان والسعودية في مواجهة مليشيات صهيونية مسلحة من داخل حدود الانتداب البريطاني على فلسطين وعدد من المتطوعين اليهود من خارج هذه الحدود، وانتهت الحرب في عمومها بهزيمة الجيوش العربية وبدء مرحلة استقرار الكيان الصهيوني.

  • ملاحظات وتشابهات

بعيدا عن المشاهد السياسية للحكام العرب والمناورات واتهامات الخيانة والحديث عن الأسلحة الفاسدة في مصر والاتصالات الجانبية بين بعض الأمراء العرب وحلفاء الصهاينة… بعيدا عن هذا كله هناك عدة ملاحظات مهمة وربما تتشابه ملامح بعضها مع الواقع الذي نعيشه أهمها: أن الغضبة الشعبية التي تلت الإعلان عن الدولة الصهيونية لم يكن لها أي مردود عملي أو مساهمة مؤثرة في مواجهة هذه العصابات، وخاصة أن طبيعة العدو يتلاءم معها أسلوب الحروب الشعبية، وأصرت الأنظمة بما فيها أنظمة الاحتلال التي كانت تهيمن عليها على أن تكون الحروب بالجيوش النظامية في مواجهة المليشيات الصهيونية المسلحة، وفي هذا النوع من المواجهات غالبا ما ترجح كفة المليشيات التي تعتمد أساسا على حروب العصابات، هذا إن لم يكن هناك فروق قوية بين المتحاربين وتفوق ساحق للجيوش النظامية وهو ما لم يحدث، وهذا الإصرار في استبعاد التشكيلات الشعبية من المشاركة في الدفاع عن الأوطان هو أمر له منطقه لدى الأنظمة المستبدة أو الموالية لسلطات الاحتلال وهو الخوف من تحول القوى الشعبية تجاهها والتخلص منها، مع اعتبار أن هناك بعض المتطوعين شاركوا في حرب 1948 ولكنهم لم يمثلوا قوة كبيرة أو تأثيرا كبيرا، بالإضافة إلى أنهم كانوا تحت قيادة الجيوش النظامية.

رغم أن المواجهة كانت بين 6 دول ومجموعة من العصابات الصهيونية ورغم الغضبة الجماهيرية تجاه إعلان الدولة الصهيونية، ورغم الجلبة والدعاية التي أحاطت بمستوى الاستعدادات لمواجهة العصابات الصهيونية، إلا أن عدد أفراد الجيوش العربية مجتمعة كان أقل من عدد المليشيات الصهيونية والمتطوعين، وهو ما يضع علامات استفهام حول جدية الأنظمة في الحشد لهذه المواجهة.

شهدت مصر في ذلك الوقت ازدياداً في القبضة الأمنية وتقييداً للحريات ومطاردات أمنية لقوى المعارضة التي تنامت في تواز مع الهزيمة في فلسطين، وهو ما يشير إلى تناقض بين رؤية النظام الحاكم والقوى الشعبية حول مواجهة المشروع الصهيوني.

رغم أن بريطانيا كانت تحمل تاريخيا الوزر الأكبر في الهيمنة الصهيونية على المنطقة وإعلان دولة إسرائيل، إلا أن جيوش المواجهة الأردنية، والتي كانت تعد من أقوى الجيوش العربية، كانت تحارب تحت قيادة جنرالات وضباط بريطانيين، وهو ما يضيف علامة استفهام أخرى حول جدية الأنظمة العربية في هذه المواجهة.

  •  الصعود للهاوية

 وبعد هزيمة 1948 أصبحت القضية الفلسطينية والوجود الصهيوني في المنطقة عنصرا أساسيا في تحديد طبيعة الحكومات والتحركات السياسية في الدول المختلفة، وأصبحت نقطة أساسية في تحديد التقارب والتباعد بين الاتجاهات السياسية المختلفة سواء في الحكم أو المعارضة، فيما أصبحت إسرائيل عنصرا مفروضا في علاقة الغرب بالمنطقة العربية يختلف مقدار تداخله من دولة لأخرى ومن زمان لزمان حسب طبيعة الحكم وقوة الشعوب أو ضعفها وحالة المد والجذر في الحركات السياسية مختلفة الاتجاهات، إلا أن السمة الأساسية أن مساحة الاختلاف بين رؤية الشعوب للقضية الفلسطينية ورؤية الأنظمة ظلت تتسع ولم تتقلص في أي وقت من الأوقات، وربما تراجع الضغط الشعبي بعض الوقت ولكن لم تتقارب الرؤى حيث كانت المواقف الشعبية غير قابلة بأي حال من الأحوال من الاعتراف بدولة إسرائيل، وظل الموقف الشعبي يراهن على احتمالات تغير الأنظمة الحاكمة واستبدالها بأنظمة حاكمة شعبية تقود المواجهة مع الكيان الصهيوني، أما الأنظمة الحاكمة التي تحولت داخليا من التعبير عن كل فئات الشعب إلى التعبير عن بعض من هذه الفئات واحتكار الحكم والموارد وفرض الهيمنة بكل الأدوات الديكتاتورية والمستبدة، وجدت مصلحتها، في التصالح مع الغرب حليف المشروع الصهيوني وهو ما يؤدي بشكل غير مباشر إلى التقارب الشديد مع إسرائيل والتطبيع المتسارع الذي حوّل الاعتراف بها كدولة إلى تحصيل حاصل وأمر واقع وهي المرحلة التي بدأها أنور السادات عام 1978 في كامب ديفيد تحت رعاية الولايات المتحدة (التي كانت أول دولة اعترفت بإسرائيل عام 1948).

وأصبح الصراع مع إسرائيل في ذاته أحد عناصر الاعتراف بالدولة الإسرائيلية، وسأستعين بطرفة فلكلورية لتوضيح مقصدي… يروى أن بابا الفاتيكان جلس في اجتماع مع مجلسه الدوري، وكان ضمن المعروض عليه خطاب من دولة إسرائيل التي لا يعترف بها الفاتيكان، وجاء في الخطاب بعد التحايا والتعظيمات أن دولة إسرائيل تطالب الفاتيكان باعتباره المسؤول عن المسيحيين في العالم بسداد ديون السيد المسيح، حيث إنه لم يسدد تكاليف العشاء الأخير الذي أقامه له اليهود، وأرسلوا له كشفا بالحساب مع الفوائد المتراكمة عبر السنوات الماضية!! اندهش البابا وأعضاء المجلس ومزق الخطاب، وظل يهود إسرائيل يرسلون الخطاب كل مجلس والبابا يمزقه حتى أصابه الملل والضجر وقرر في المرة الأخيرة أن يرد عليهم بخطاب توبيخ، بدأ بعبارة: السادة دولة إسرائيل.. وهنا أخذ اليهود الصهاينة الخطاب واعتبروه دليلا على اعتراف الفاتيكان بإسرائيل!

إعلان القدس عاصمة لإسرائيل يعتبر تتويجًا لهذه الحالة المتردية في المنطقة وخاصة بعد الحصار الذي فرضته معظم الدول العربية على قوى المقاومة في فلسطين بحجة تعارض المصالح وخلافات مصنوعة بإتقان في مخابرات أكبر الدول الغربية وتحت رعاية الأنظمة الحاكمة العربية التي وجدت في العمالة للغرب والتسليم للمشروع الصهيوني مظلة حماية لها، ووصل الأمر مثلا في مصر إلى اعتبار أن حركة حماس للمقاومة الفلسطينية هي العدو الرئيسي لمصر بدلا من إسرائيل التي تحولت إلى حليف للنظام المصري.

  •  شبهات !!

ولم يكن التغلغل الصهيوني في شؤون البلدان العربية يتعلق فقط بعلاقات المصلحة مع الأنظمة الحاكمة العميلة، وإنما امتدت المؤامرات الصهيونية لتخريب الشعوب من الداخل ونشر الجهل والأمراض والانهيار ووأد كل حركات التغيير الشعبية وتخريبها بكل السبل بمساعدة عملاء الأنظمة الفاسدة، وهو ما وضع البلدان العربية في مواضع خلاف وانهيار لم تسهل فقط التحكم في فلسطين الذبيحة وإنما بدء المرحلة الأخيرة في المشروع الصهيوني والذي يستهدف إعلان إسرائيل الكبرى من النيل إلى لفرات. الموضوع تفاصيله كثيرة ولا يمكن أن تكون حدوده مقال إلا أنني لا أريد أن تكون نتيجة هذا السرد هو بث اليأس والاستسلام، بل أريد أن أقول: إنه رغم كل هذه الخيانات والمؤامرات والضربات الموجعة ما زالت الشعوب العربية تحمل داخلها عناد المقاومة ورغبة التغيير وتكتسب يوما بعد يوم الخبرات من كل هذه الضربات الموجعة والتي حتما ستؤدي بها إلى ثورة شاملة ليست في مواجهة الصهيونية فقط وإنما في مواجهة الحلف الاستعماري بعناصره الداخلية والخارجية.

ثورة ربما يراها البعض بعيدة ولكن المخلصين يرونها قريبة وقريبة جدا.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه