القاعدة وداعش وفريضة ” الجهاد ” المستباحة

من فريضة ” الجهاد ” استمد تنظيما القاعدة والدولة الإسلامية “داعش” شرعية تواجدهما واستمرارهما

 

حيث تمكنا من جذب آلاف الشباب إلى صفوفهما في عدة بؤر ملتهبة بداية من أفغانستان مروراً بالعراق وصولاً إلى سوريا ، وما بين هذه المحطات الرئيسة ومن خلالها تمكن التنظيمان من اختراق العديد من الدول عبر ما عرف بالخلايا النائمة والتي تطورت لاحقاً إلى الذئاب المنفردة ، حيث عمدا إلى إحداث حالة من الفوضى والتخريب ، إضافة إلى إراقة دماء الآلاف من المسلمين وغيرهم .

 

البعض – مدفوعاً باعتبارات إيديولوجية وثأرات فكرية – حاول أن يحمل النصوص القرآنية والنبوية والسرديات الفقهية مسؤولية أفعال التنظيمين ، على أساس أن أفعالهما انعكاس وتأويل للنص “المكتوب” .

 

البعض الآخر التزم الصمت ، أو اكتفى ببيانات هجومية تؤكد على سماحة الإسلام ووسطيته ، دون النفاذ إلى عمق البنية الفكرية المؤسسة لهذه التنظيمات والمروجة لأفعالهما .

صنف ثالث اجتهد وقدم رؤية نقدية لكنها لم يتوفر لهما الدعم اللازم واستمرارية التطوير كتلك الرؤية التي قدمتها الجماعة الإسلامية المصرية في نقد مشروع القاعدة ومن قبلها في نقد المشروع التكفيري المؤسس للفكر الداعشي فيما بعد .

ورغم أن التنظيمين روجا لأفعالهما انطلاقاً من مفهوم الجهاد إلا أنها اختلفا بعد ذلك في الذرائع والأسباب المبيحة للتفجيرات والاغتيالات .

رغم أن الصحفي الأمريكي بيتر بيرجن الذي يعمل محللاً لشؤون الأمن القومي لدى شبكة CNN أرجع في كتابه ” أسامة بن لادن الذى أعرفه ” ظهور التنظيم إلى أواخر الثمانينات وتحديداً عام ١٩٨٨ إلا أن القاعدة لم تبرز كتحدٍ أمني عالمي إلا عقب البيان الشهير الذي أصدرته عام ١٩٩٦تحت اسم ” الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين ” وأكدت فيه أن حكم ” قتل الأمريكيين وحلفائهم مدنيين وعسكريين، فرض عين على كل مسلم في كل بلد متى تيسر له ذلك، حتى يتحرر المسجد الأقصى من قبضتهم. وحتى تخرج جيوشهم من كل أرض الإسلام، مسلولة الحد كسيرة الجناح.

بيان القاعدة مثل تطوراً مهماً في المشهد الجهادي إذ جعل القتل على أساس الجنسية ، ولأول مرة أدخل المدنيين في مفهوم الاستهداف ، والذي لم يقتصر على جنسية واحدة بل شمل ” الأمريكيين وحلفاءهم ” وهو ما يعني بكل بساطة أن التنظيم قرر في بيان واحد استعداء معظم دول العالم ، وجر عموم البلدان الإسلامية إلى أتون مواجهة غير متكافئة ولا محسوبة العواقب ، والحقيقة أن عدم النظر في المألات كان أبرز النقائص التي لازمت التنظيم منذ تأسيسه حتى الآن .

 

لم يقدم التنظيم إقناعاً ” فقهياً ” بالتطور الجديد بل اندفع إلى تنفيذ عدد من الهجمات على المصالح الأمريكية في دار السلام ونيروبي وعدن والتي شهدت سقوط مئات القتلى ، والمفارقة أن معظمهم كانوا من السكان المحليين المدنيين .

 

ثم كانت الذروة في استهداف برجي التجارة في نيويورك سبتمبر ٢٠٠١ وعدة عواصم وبلدان عربية وأوروبية كالدار البيضاء ومدريد ولندن .

كان التنظيم يرفع لافتة الجهاد ويتفاخر عقب كل ” غزوة ” مبرراً قتل كثير من المسلمين في تلك العمليات بالبعث على النيات تارة ، وتارة أخرى باستدعاء فتوى ” التترس ” المشهورة رغم تباين المشهدين .

استدعاء النصوص الفقهية كان يتم بخفة واضحة ، وهدر تام للظرفين الزماني والمكاني اللذين أثرا في تلك الفتاوي حين صدروها قبل مئات السنين ، والتي يتطلب إعادة إنتاجها حضوراً علمياً مكثفاً ، نظراً لخطورة الآثار المترتبة عليها .لكن ذلك لم يحدث ما أدى إلى استباحة مفهوم الجهاد فانتقل من الفريضة الغائبة كما سماه محمد عبد السلام فرج ـ أحد أبرز قيادات تنظيم الجهاد فترة السبعينيات ـ إلى الفريضة المستباحة بفعل تنظيرات عديدين أبرزهم د./سيد إمام الشريف المعروف بالدكتور فضل صاحب كتاب ” العمدة في إعداد العدة ” والذي يعد بمثابة أشهر التنظيرات داخل التنظيم ، ورغم تراجعه عنها لاحقاً في تنظير حمل اسم ” وثيقة ترشيد العمل الجهادي ” إلا أن أثرها ظل محدوداً وباهتاً على البنية الفكرية للتنظيم ، في وقت كان يعول عليها لإحداث نقلة واضحة خاصة فيما يخص ترشيد التعامل مع مفهوم الجهاد وإهدار الدماء .

لكن التطور الذي حدث لاحقاً على يد تنظيم داعش بدت فيه أفعال القاعدة متواضعة .

في اعترافاته أمام جهات التحقيق أكد عبد القادر مشاريبوف – منفذ الهجوم الإرهابي على ملهى رينا بإسطنبول ليلة رأس السنة والذي أودى بحياة ٣٩ شخصاً – أن الهجوم كان من المفترض أن يتم بميدان تقسيم الشهير ، لكنه لم يتم بسبب التشديد الأمني المكثف ، إلا أن الشخص المتابع له في مدينة الرقة السورية أمره بالبحث عن أي مكان آخر لتنفيذ الهجوم ، فوقع اختياره على ملهى رينا بمنطقة أورطاكوي الشهيرة  لضعف الإجراءات الأمنية ، بل كان مقرراً أن يواصل هجماته الإرهابية في تلك الليلة باستهداف محطة للحافلات العامة بمساعدة شخص آخر لكنها لم تتم .

تنظيم داعش سارع بافتخار بإعلان مسؤوليته حيث أعلن أن أحد ” جنود” الخلافة تمكن من قتل “النصارى” ليلة احتفالهم بعيدهم ” الشركي !!! لكن وبعد أيام قليلة وبعد أن تأكد التنظيم أن معظم القتلى من المسلمين ( عرباً وأتراكاً ) عاد ليبرر فعلته مؤكداً أن “من خالف أمر الله له بمرافقة المشركين، والهجرة من ديارهم، وتعمَّد الاختلاط بهم، بحيث لا يمكن للمجاهد أن يتبيّن له المسلم من المشرك، فذاك قد جلب الأذية لنفسه، فبرئت منه ذمة المجاهدين، ويبعثه الله على نيَّته”.

وعن حكم من قتل من المسلمين ليلتها يؤكد التنظيم أن ” من قُتل من المنتسبين إلى الإسلام في هذا الهجوم فقد جنى على نفسه بارتكابه من الأفعال ما جعله إلى الكفر أقرب منه إلى الإسلام، ومخالطته للمشركين، بحيث لا يمكن التفريق بينه وبينهم، فدمه هدر”.

اعترافات مشاريبوف إضافة إلى بيانات وتبريرات التنظيم تنقل المشهد إلى دائرة أكثر وحشية ودموية ، فالقتل الذي كان يمارس في النموذج القاعدي على أساس الجنسية ، يمارس هنا بشكل عشوائي ، فإذا ما استعصى القتل في ناحية فليتم البحث عن ناحية أخرى فالمهم سقوط ضحايا ، وفي الوقت الذي بحثت فيه القاعدة عن مخرج لضحاياها وطمأنتهم بأنهم سوف يبعثون على نياتهم ، لم تهتم داعش بذلك فالضحية لديها ” جنى على نفسه بارتكابه من الأفعال ما جعله إلى الكفر أقرب منه إلى الإسلام ” ودمه في نهاية المطاف ” هدر ” .

 

وإذا كانت القاعدة قد انطلقت من تكفير المنتسبين إلى قوات الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية ، فإن داعش انتهت إلى تكفير عموم المسلمين واستباحة و”هدر” دمائهم .

 

لكن وبالرغم من هذه ” الاستباحة ” الفقهية والعوار التنظيري الواضح ، فإن التنظيمين لم يعدما المدد البشري اللازم للمواصلة ، فقد تكفلت به أنظمة سلطوية استباحت هي الأخرى دماء وأعراضاً تحت لافتة ” الوطنية ” ، إضافة إلى نظام عالمي لايزال يهمه استمرار وجودهما لتدمير البنى العقدية والفكرية والثقافية للعالم الإسلامي ، وتواصل استنزاف الموارد البشرية والمادية بزعم محاربة ” الإرهاب ” .

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه