الـ “بدون” السوري

أوّل مرة سمعت بالبدون _ غير محددي الجنسية_ كانت في بداية التسعينات من القرن الماضي حين عملت معلمة في إحدى مدارس الكويت الخاصة. لم أكن قبلها أعرف ماذا تعني تلك الكلمة بشكل فعلي.

شغلت قضية البدون الروائيين الكويتيين فكرّس لها الروائي ناصر الظفيري وهو يحمل الجنسية الكندية حالياً وأصله من “البدون” معظم أعماله.. وكتب عنها الروائي إسماعيل فهد عدة أعمال رائعة، كما تناولها سعود السنعوسي في روايته “ساق البامبو” الحائزة على جائزة البوكر بنسختها العربية عام 2012. وتناول التلفزيون هذه الظاهرة على استحياء في بعض الأعمال الدرامية.

والبدون _رسمياً_ لا ينتمون إلى الكويت ولا إلى أوطانهم وهم محرومون من امتيازات كثيرة غير الجنسية الكويتية ومنها السفر والدراسة العليا والعمل في وظائف حكومية.. ويوجد من التعقيدات التي يحاصرون بها للحصول على وثيقة زواج رسمية لتسجيل أولادهم. وكما توجد طبقات في المجتمع الكويتي توجد طبقات أيضاً من البدون فبعضهم يحصل على امتيازات بسبب عمله في الجيش أو زواجه بكويتية لكنّه حتماً لا يحصل على كامل الحقوق التي يتمتع بها الكويتي من الفئة الثالثة ولا يمكنه الحصول على الجنسية.

نسل الغرباء المجاهدين!

هذه الظاهرة انتشرت في الفترة الأخيرة في سوريا بسبب المجاهدين الذين أتوا من جميع أصقاع الأرض ليحاربوا على أرضها. ومن نافل القول التذكير بأنّ حربهم لم تكن على الطغيان المتمثل بالنظام السوري بل على السوريين أنفسهم، السوريون المدنيون الذين أقام هؤلاء بينهم وسطوا على أرزاقهم بحجة الجهاد.. ولا تحتاج معرفة هذا الأمر إلى تقصي الحقائق والإثباتات فقد بات يعرفها كل سكّان المناطق المحررة والتي لم تتحرر بعد.

هؤلاء المجاهدون كانوا بحاجة إلى زوجات ليعينوهم على “الجهاد” وقد تبرّع الكثيرون من أبناء المناطق التي حلوا فيها بتزويجهم بناتهم من دون مهر أحياناً عملاً بقول الرسول صلى الله عليهم وسلم “التمس ولو خاتماً من حديد”.

اللواتي قتل أزواجهن وأصبحن أرامل، واللواتي هرب أزواجهن وعادوا إلى بلادهم في سلة واحدة.. أصبحن عالة على آبائهن والمجتمع، وأصبح الأولاد بلا جنسية. وهذه المشكلة لا تقتصر على المناطق المحررة فالإحصائيات تشير إلى وجودها بكثرة في مناطق النظام.. فالمقاتلون القادمون من روسيا في الساحل السوري يتمتعون ببنات المناطق هناك، وكذلك المقاتلون في الجنوب والعاصمة الذين لا تعدّ جنسياتهم ولا تحصى. وهذه الظاهرة التي تفشت مع تدفق الأجانب المقاتلين بدأت نتائجها السلبية تظهر على شكل أطفال متعددي الأعراق والجنسيات ومع هذا لا يستطيعون الحصول على جنسية.

الأغبياء الذين زوجوا بناتهم للمجاهدين لم يهتموا بمعرفة شيء عنهم حينها، ومعظمهم يحمل ألقاباً أو كنية ليست له، والمرأة المتورطة ليست الضحية بل الأولاد الذين جاؤوا إلى الدنيا في ظروف الحرب وهجرهم آباؤهم ولا يعرفون إلى أيّ بلد ينتسبون!

وجد القدماء حلاً للأطفال الذين فقدوا آباءهم بالموت “الأيتام” بقبول ظاهرة التبني في كلِّ المجتمعات حتى في المجتمعات الإسلامية لكنّها في الإسلام كانت مشروطة بحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيه: “ادعوهم لآبائهم”. أي أنّ النسب يبقى للأب الحقيقي، وتعود الدائرة لتغلق على هؤلاء مرّة أخرى فمعظمهم مجهولو الآباء خاصة الأطفال الذين جاؤوا نتيجة عمليات الاغتصاب في المعتقلات.

قامت حملة أطلقها ناشطون بعنوان “مين زوجك” لمنع تزويج السوريات من المقاتلين الأجانب وقامت بإحصائية لحالات الزواج، فكانت، 1735، حالة زواج أثمر عنها 1826 طفلاً، وخلف هؤلاء وراءهم،193، أرملة ومطلقة. وقد قام مجلس الإفتاء الإسلامي السوري بتحريم هذا الزواج بفتوى، واعتبر أنّ الزواج بهذه الطريقة زنا.

القوانين الشرعية:

تأخذ القوانين الشرعية في الوطن العربي معظم نصوصها من الدين، وبما أنّ النسب يعود للأب فلا تعترف تلك القوانين بالأم، فهي مجرد “مرضعة، وحاضنة، ومربية”. في القانون السوري لا تستطيع الأم أن تمنح الجنسية لأولادها تماماً كما في القانون الكويتي.. فالولد الذي يأتي من أم كويتية وأب سوري أو مصري أو أي جنسية أخرى لا يستطيع الحصول على الجنسية الكويتية ويبقى “بدون” إن لم يحمل جنسية والده.

في القانون الكويتي يمكن لابن الكويتية أن يحصل على الجنسية الكويتية في حال مات الأب!

وهذا القانون أنتج ظاهرة جديدة وهي كراهية الأبناء لآبائهم بسبب ما يتحملونه من إهانات ومعاملة عنصرية من أترابهم الكويتيين في المدارس والأماكن العامة.

في قصة لافتة للنظر ليست الأولى ولن تكون الأخيرة ظهور حالات اعتداء من الأبناء على آبائهم بغية التخلص منهم للحصول على الجنسية! التي تعني بالنسبة لهم الاستقرار النفسي والاندماج في المجتمع والتخلص من نظرة الاستعلاء والمعاملة العنصرية من قبل الذين يحملون الجنسية الكويتية.

 هذه الكراهية لا يحتاجها الطفل السوري البدون فهو سينغمس كلياً في المآسي التي تحاصره والتي تفوق مأساة النسب والجنسية أهمية وألماً.. فهو في مواجهة مستقبله لا توجد أمامه خيارات كثيرة، فإمّا أن يصبح مجاهداً لصاً، أو لصاً من غير جهاد! وفي الغالب سيكون إرهابياً كما كان والده الذي تخفّى بثوب الجهاد.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه