العنف يبدأ واقعا لا نصا

   

ما سبب العنف: النص الديني أم الواقع السيء.. من يحكم من؟

هناك مدرستان في هذا الإطار، الأولى: مدرسة النص الذي يولد العنف، أو قبعة الحاوي التي تخرج الكتاكيت والمفخخات. والمدرسة الثانية التي تقدم الواقع الغاضب الذي يأتي بالنص الغاضب الدافع إلى العنف.

ترجع الكاتبة الإنجليزية “كارين أرمسترونغ” في كتابها “حقول الدم” أصول الربط بين العنف والدين إلى قرون الأنوار بدءا من القرن السابع عشر حينما شرع الغرب في عزل الكنيسة عن السياسة؛ فقد كانت هناك رؤية سائدة ترى أن الدين هو المسؤول الأول عن العنف والصراعات الدموية التي سادت أوربا في العصور الوسطى. وأن انتصار العلمانية والفكرة القومية انتصار للسلام والتسامح والخلاص من تلك النزاعات.

 وهنا تشير الكاتبة إلى دور اثنين من هؤلاء المنظرين لعبا دورا مهما في إعطاء هذا الانطباع عن الدين، “توماس هوبز” و”جون لوك”. وبطريقة ما، ربط الاثنان بين العنف والنصوص الدينية، وتوسعت هذه النظرية وتجاوزت إدانة الفكر للدين إلى إدانة الدين لنفسه، باعتبار الدين “قوة عنف غير عقلانية”، وبعضهم رأى أن التوحيد نفسه فكرة غير متسامحة، ومن الصعب عقد أي توافقات مع الموحدين لأنهم لا يقبلون إلا بالحقيقة الواحدة. باختصار، فضلا عن كتابات كانت تعتبر الوثنية أكثر تسامحا من الوحدانية، واستقر الراي على أن العنف بذرة نزلت في معطف جبريل، وليست من نبات الأرض.

 الوعد بالسلام

وفي فرنسا القرن الـ 18، أحرقت الجماهير الكنائس، حوالي 4000 كنيسة تم تدميرها، وطويت علاقة الدين بالدولة والسياسة بل والمجتمع، وشنق آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس كما أوصى فولتير، وحلت الدول الوطنية التي تقوم على قوميات وعرقيات محل الإمبراطوريات، فهل حل على الأرض السلام وأضحى للناس المسرة؟

الحقيقة أن العلمنة ووعود الدولة القومية الغربية لم تنجحا في نشر السلام الموعود، حيث تسارعت وتيرة الحروب والتسابق على موارد الأمم وإقامة المستعمرات، وتم السطو على مخزون بشري لقارة بأكملها في أكبر حملة لتعبئة العبيد في التاريخ، حتى صاحبنا رائد التسامح جون لوك تورط، كما تقول أرمسترونغ، في تجارة العبيد والتشجيع على احتلال بعض المناطق.

 منيت الإنسانية بملايين القتلى الذين ماتوا وأسروا في القرون التي امتدت من السادس عشر حتى العشرين تحت رايات بعيدة عن الدين والفتاوى الدينية، لم يعد هناك بطرس الناسك، الذي يصلي من أجل الجنود، حيث صعدت فتاوى تمجد الجنس الآري الذي خلق ليسود، وعلم الفاشية الذي وعد موسيليني أن يضعه على النجوم.

 نجد أنه ما بين 1914 – 1945 مات سبعون مليون انسان في أوربا والاتحاد السوفيتي، وارتكب الألمان أسوأ الفظائع في التاريخ لأسباب تخص الهندسة العرقية والقومية واللونية، بحسب أرمسترونغ. بخلاف القنابل النووية التي قضت في هيروشيما على 140 ألفا فورا، وأنهت الثانية حياة 24 ألفا.

 عايش المفكر الألماني أريك فروم أجواء الحرب العالمية الأولى، وكيف كانت تتسابق الشعوب العلمانية على التعبير عن روح الشوفينية القومية والتفوق العرقي، آري وأنغلو ساكسوني وفيكينغ ويهود وروس، في حالة أشبه بهيستريا كونية، كانت تعم الأمم المتحضرة.

وهنا يمكن أن نستمع لدراسة مهمة ألمح إليها اللاهوتي “جوناثان ساكس” الذي يرى فكرة أن الدين هو المحرك الأساس للعنف والحروب يمكن تفنيدها بسهولة عن طريق استكشاف تاريخ الحروب، وموسوعة “ألان اكسلرود” عن المعارك العسكرية التي تغطي عدد 1800 من الحروب عبر التاريخ، وتبين أنه في 10% فقط كان الدين هو الدافع الرئيس.

حتى على صعيد الهجمات الانتحارية تقول الكاتبة، إنها كانت في الاصل على يد حركات قومية مثل نمور التاميل وهي حركة انفصالية قومية علمانية لا علاقة لها بالدين وأعلنت مسؤليتها عن 260 عملية خلال عقدين من الزمن.

 وإحدى الدراسات حسبما تنقل في كتابة صدرت عن جامعة شيكاغو تتبعت العمليات الانتحارية عبر العالم ما بين 1980- 2004 وخلصت الى أن القليل من الروابط بين الإرهاب الانتحاري والأصولية الإسلامية أو أي دين بهذه المسألة ومن بين 38 هجمة انتحارية في لبنان خلال الثمانينيات كان 8 من الانتحاريين مسلمين و3 مسيحيين و27 علمانيا اشتراكيا.

العنف من رحم الواقع

النظرية الثانية وهي تقلب المنطق السابق؛ فهي ترى أن الدين ودارون والقوميات كلها وغيرها، ليست مصدرا للعنف بالذات، بل هي نظريات تستدعى عند العنف. وترى أن العنف موقف قبل أن يكون فكرة، أو أداة كما تقول المؤرخة حنة أرندت، وينبع من اختلالات اجتماعية وسياسية، ومن الطبيعي أن توجه هذه الاختلالات أي قراءة لنصوص دينية أو علمية مادية، صراعات البشر بسبب ندرة الموارد الجيدة لا لندرة النصوص الجيدة.

  وعندما يغضب المسلمون فليس لأن هناك نصا يقودهم للغضب، ولكن لأن الواقع الغاضب يستدعى ما يدعمه من نصوص، وإن لم يوجد نص يخترع كما حدث في الصراع الفِرقي في التاريخ الإسلامي، حيث جنحت كل فرقة لوضع الروايات التي تمجد موقفها، والناس تفكر لتعيش، ولا تعيش لتفكر.

وهي مسألة أصولية قبل أن تكون سيسيولوجية، فالواقع المتغير والمتجدد يعتبره الفقهاء المدخل الأهم لفهم وتفسير النص، وكان أحد الأصوليين قد ربط بين تشدد الفقه الإسلامي مع غير المسلمين في العصور الوسطى بمناخ الحروب الصليبية التي ألقت بظلال من المحافظة الشديدة على الفقهاء.

وأحيانا نفس الفكرة الدينية تعمل وظيفتين مختلفتين بسبب تغير السياق السياسي للفكرة، فدخول الامام الثاني عشر السرداب ولد سكونية شيعية طيلة ألف عام، ومن سردية السرداب نفسها خرجت ثورة عارمة في 1979 في طهران.

وقد أخذ المصلح الإنجيلي لوثر موقفا إيجابيا من فكرة المقاومة السلمية في سياق وكان يقول “لا أوافق على نصرة الإنجيل بالعنف وإراقة الدماء”، وعندما قامت ثورات الفلاحين التي باتت تهدد مصالحه، ومصالح القوى السياسية التي تدعم أفكاره الإصلاحية صرخ ” يجب تمزيقهم إربا إربا، خنقهم، ذبحهم، في السر والعلن” بل كما يقول فردريك انجلز حكم عليهم بالهرطقة، ودعم ذلك بقراءات إنجيلية وتوراتية، والحق أن الكتاب المقدس لم ينطق إنما نطق بتلك الأحكام الرجال. 

والحقيقة كان الجاحظ عمرو بن بحر، من أهم المفكرين الذين اكتشفوا تلك الحقيقة لطبيعة عمل الدين، سواء توظيفه في زيادة الاستبسال أو استخدامه في تهبيط نوازعه في النفس، أو زيادة الاستبسال وقد لفت الصديق أحمد فال ولد الدين إلى نصوص للكاتب، في غاية الأهمية حيث أرجع الجاحظ ميل قريش قبل الاسلام للتجارة وترك الحروب واستحلال الأموال  لتدينهم الشديد.

ويرى أن مرجع هزيمة الرومان وهزيمتهم من الفرس كان بسبب اعتناقهم للنصرانية، وضعف همة الترك وانكسار شهوتهم في القتال كان بسبب تزندقهم أو ايمانهم بالبوذية. وفي نفس الوقت ضرب الجاحظ أمثلة لدور الدين في الحشد حيث أرجع شدة بأس الخوارج “إنما هو بسبب الديانة”.

نفس الفكرة اهتدى اليها المفكر الماركسي فردريك حيث أرجع خصوصية العنف والارهاب في الثورة الفرنسية بسبب ضعف المشاعر الدينية “وأصبحت المادية عقيدة الثورة، في حين ذلك لم يتوفر في الثورة الإنجليزية حيث كان يتمسك الإنجليز بالخوف من الله ما عطل طاقة العنف الثوري.

  تدليك النص

 إن المطالبة بتجديد الخطاب الديني مرتبط بتغيير الواقع السياسي والاجتماعي، وعملية التجديد تبدأ من المعاش وليس من النص، ومن الدولة وليس من الدين.  بمعنى أوضح: الواقع هو الذي يضيء النص، وبقدر النور الساقط من الواقع بقدر الضوء المنعكس من النص. إن تأكيد السياسيين أن العنف يبدأ فكرة أو نصا، يصرف الأنظار عن مسببات العنف الحقيقية، فالتوحش نتيجة وليست غريزة سحيقة في البشر وليست حتمية في تلافيف الدين.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه