العلاقات التركية السعودية والصدام المؤجل

هي إذن أيام صعبة تنتظر العلاقات التركية السعودية، قد تدفع فيها الرياض ثمن حساباتها الخاطئة.

عبر عدة مسارات متعرجة، قطعت العلاقات التركية السعودية رحلتها خلال السنوات الأخيرة، والتي تذبذب مؤشرها ما بين الصعود والهبوط، من دون أن تتمكن من وضع يدك على الأسباب الحقيقية لهذا التذبذب الواضح، وغير المنطقي بين دولتين تمثلان رقماً مهماً في الكتلة “السنية” المسلمة.

فعلاقة الدولتين باتت تمثل لغزاً حقيقياً فكلما دنت الخطوات وتقاربت، تباعدت مسافات أكثر وضوحاً، ورغم أن الملف المصري والموقف من السيسي تحديداً، اعتبره كثيرون في وقت “ما” نقطة افتراق واضحة بين الجانبين، فإنه في حقيقته لم يكن سبباً كافياً للتدهور الحاد الذي تسير إليه علاقة البلدين، فمن يطالع الحملات الإعلامية التي تشنها وسائل إعلام مملوكة للسعودية، أو الهجوم الذي تشنه “الكتائب الإلكترونية” من خلال مواقع التواصل الاجتماعي على تركيا وعلى أردوغان بصفة خاصة يدرك أن علاقة البلدين تسير نحو صدام قد يبدو مؤجلاً حتى الآن.

خلاف بين مشروعين لا يلتقيان

لا يمكن فهم طبيعة العلاقات التركية السعودية المعقدة، من دون الاقتراب من الأهداف العليا التي يرسمها كلا النظامين ويسعى بجد إلى تحقيقها، فالنظام التركي ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام ٢٠٠٢م، وهو يضع نصب عينيه تحرير السياسة التركية من الوصاية الخارجية، التي امتدت لعقود وأدت إلى تحويل تركيا إلى دولة هامشية مهمتها حماية الطرف الجنوبي لحلف الناتو من الخطر الشيوعي السابق، ثم ما لبثت أن فقدت هذه الوظيفة بانتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي. لكن العدالة والتنمية بزعامة أردوغان استطاع خلال خمسة عشر عاماً تحرير السياسة التركية في موازاة إصلاحات داخلية مهمة غيرت وجه الحياة في تركيا، ما سبب إزعاجاً للقوى المهيمنة عالمياً وحلفائها الإقليميين، إذ مثَّل لهم أردوغان نموذجاً للتمرد الذي ينبغي محاصرته، كي لا تمتد العدوى إلى بلدان وأقطار أخرى، ومن يتابع المحاولات الدؤوب التي لا تنقطع من أجل ضرب الاقتصاد التركي، أو تعطيل المشروع “الأردوغاني” قبل أن يصل إلى محطته المهمة في ٢٠٢٣، يدرك جيداً حجم القلق الذي ينتاب الدوائر العالمية من تمدد الحلم التركي وتحوله إلى نموذج ملهم خاصة للشعوب الإسلامية، أيضاً لا يمكننا تجاوز الإنجاز المهم الذي حققه أردوغان في التخلص من الأدوار الوظيفية التي رسمت لتركيا خلال العقود الماضية، والتي انعكست على علاقتها بالحلفاء التقليديين وعلى رأسهم الولايات المتحدة.

على الضفة الأخرى من المشروع التركي، يقع المشروع السعودي الذي يلعب أدواراً وظيفية مهمة من قبل النظام العالمي فيما يخص ملفات المنطقة، وعلى رأسها الملف الفلسطيني في ظل الجهود المتسارعة من أجل إتمام ما عرف بـ “صفقة القرن” التي يمثل اعتراف ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل حلقة مهمة فيه، إذ تشير تقارير صحفية إلى أن ترمب لم يكن ليقدم على تلك الخطوة لولا حصوله على الموافقة من السعودية ومصر، كما لم تتأخر الرياض في دعم الرئيس الأمريكي بمئات المليارات من الدولارات، إضافة إلى الرحلات المكوكية التي قطعها صهر ترمب، جاريد كوشنر، إلى السعودية من أجل التحضير لما يعرف بـ “صفقة القرن”.

كل هذا وغيره يوضح أن كلا المشروعين لا يمكن لهما أن يلتقيا، رغم الجهد الكبير الذي بذلته أنقرة من أجل إقامة تحالف حقيقي مع السعودية، يمكنه إحداث توازن في منطقة الشرق الأوسط في مواجهة المشروعين الصهيوني والشيعي، وفي سبيل ذلك عملت تركيا على امتصاص الحملات الإعلامية التي يقف وراءها أطراف نافذة داخل المملكة، وكانت تركز على شخص أردوغان، مع ملاحظة أنها اقتصرت في مرحلة سابقة على وسائل الإعلام السعودية خارج المملكة، قبل أن تنضم إليها وسائل الإعلام الداخلية حالياً.

السعودية والعبث بثوابت الأمن القومي التركي

لا يمكن بأي حال من الأحوال النظر إلى الحوار الذي أجرته صحيفة “عكاظ” السعودية بتاريخ ١١/١٢/٢٠١٧ مع القيادي في حزب العمال الكردستاني PKK رضا آلتون، على أنه مجرد “سبق” سعت إليه الجريدة، إذ من المعروف أن “آلتون” مطلوب لدى أجهزة الأمن التركية بسبب ضلوعه في العديد من العمليات الإرهابية التي طالت مدنيين أبرياء، ورغم ذلك قدمته الجريدة بصفته “وزير خارجية PKK“! الحوار رغم إسهابه لم يتطرق إلى العمليات الإرهابية التي يشنها التنظيم ضد المدنيين والأبرياء من الأتراك والأكراد على حد سواء، فبدا الأمر وكأننا أمام حزب سياسي يعاني “بعض” المشاكل مع تركيا، وليست حرباً مستعرة منذ حوالي أربعين عاماً قتل فيها عشرات الآلاف من الأبرياء.

إعادة تقديم حزب العمال للجمهور العربي، سبقته في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، زيارة مثيرة قام بها وزير الدولة السعودي المسؤول عن شؤون الخليج ثامر السبهان، إلى الرقة السورية برفقة منسق عمليات التحالف  ضد داعش الجنرال بريت ماكغورك، وذلك عقب نجاح مليشيات الوحدات الكردية YPG في الاستيلاء عليها من داعش، حيث التقى السبهان بمسؤولين في حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، الذي تصنفه أنقرة تنظيماً إرهابياً وتعتبره امتداداً لحزب العمال الكردستاني وذراعاً سورياً له، .زيارة السبهان أثارت جدلاً كبيراً في داخل تركيا إعلامياَ وسياسياً، إذ بدا واضحاً منها أن الرياض قررت أن تلعب في الفناء الخلفي لحليفتها الاستراتيجية (هكذا يفترض وفق الاتفاقيات الموقعة بين البلدين) في ملف من أكثر الملفات حساسية لدى تركيا، بل لا نبالغ إذ نقول إنه مدار عداوتها وصداقتها، فالخلاف المحتدم بين تركيا والولايات المتحدة، أو دول الاتحاد الأوربي وخاصة ألمانيا، الجزء الأكبر منه بسبب احتضان ودعم حزب العمال.

هذه الحساسية التركية تجاه ميليشيا PKK الانفصالية وأذرعها السورية، أمر تدركه السعودية جيداً، وتدرك عواقبه على علاقتها مع أنقرة، لكن يبدو أنها قررت قطع شوط المواجهة إلى نهايته.

ورغم أن أنقرة مازالت تحتفظ بهدوء الأعصاب في التعامل مع الملف السعودي بصفة خاصة، لاعتبارات عدة، إلا أن ذلك قد لا يستمر طويلاً، وقد ظهرت بوادره في الصدام التركي – الإماراتي، الذي اشتعل إثر إعادة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، لتغريدة مسيئة إلى القائد العثماني فخر الدين باشا، وإلى الرئيس التركي نفسه، الأمر الذي قابله عليه أردوغان برد عنيف، وصف فيه المسؤول الإماراتي بـ”البائس”، وانضم إليه مسؤولون أتراك آخرون رفيعو المستوى، بل أعلنت المعارضة التركية، رفضها للإساءة إلى القائد العثماني، في تصعيد يبدو أن تركيا قد قررت المضي فيه وعدم احتوائه كما في أزمات سابقة كانت أنقرة تعمد إلى احتوائها لاعتبارات اقتصادية في المقام الأول، إذ لم يعد خافياً تورط الإمارات في محاولة الانقلاب الفاشلة في ١٥ من يوليو/تموز ٢٠١٦، وفي محاولة الانقلاب القضائية في ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٣، بل تشير تقارير إلى تورطها في إشعال أحداث غازي بارك في مايو/أيار ٢٠١٣.

هي إذن أيام صعبة تنتظر العلاقات التركية السعودية، قد تدفع فيها الرياض ثمن حساباتها الخاطئة، عندما تفاجأ ذات يوم أن عليها أن تخوض معاركها الاستراتيجية بمفردها، بعد أن فرطت بغرابة شديدة في الحلفاء والأصدقاء.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه