“الطلياني”، وتلك الرواية المارقة

من الصعب أن يقنع المبخوت قارئه بما يروّجه عن شخصياته المناضلة في سبيل التحرّر وهو يشاهد سلوك الطلياني مع ريم. فقد كان مخادعا، يمارس سلطته المعنويّة على فتاة تحلم بالنجوميّة

 

عبد الرزاق قيراط*

يقف قارئ “الطلياني”، إذا كان من جيل عبد الناصر بطل الرواية، أمام مرآة لا تخطئ عرض التفاصيل، ولا تخفي شيئا من عيوب الواقع الذي تعكسه بصدق كبير. فهي من جنس الروايات القريبة من السيرة الذاتيّة التي تتجاوز الكاتب وأبطاله على نحوٍ يذكّر بالقولة الشهيرة للدكتور حسين الواد “تدور على غير أسمائها”… وعلى ذلك الأساس، يعتقد الكاتب شكري المبخوت أنّ النساء التونسيات يمثّلن “خلاصة للاّجنينة وزينة ونجلاء وحتى ريم بحلمهنّ بالتحرّر ومصارعة مجتمع محافظ منافق”. وبذلك التصريح الذي أدلى به للصحافة، أهدى روايته لجميع نساء تونس اللاتي “يقدننا إلى أفق الحريّة“.
يساهم المبخوت برأيه المضاف إلى النصّ، في قراءة روايته وتحليل أبعادها الاجتماعيّة، محدّدا موقفه بوضوح وبلا مراوغة من المجتمع الذي ينتمي إليه أبطاله إذْ يصفه بالمجتمع “المحافظ المنافق”. وتلك القراءة تدعونا إلى نقاش البعد الأيديولوجيّ للرواية في علاقته بالمنظومة الأخلاقيّة التي يقوم عليها نسيجنا الاجتماعيّ حيث يحتدّ الصراع بين موقفين، أحدهما مارق عن تلك المنظومة أو راغب في التحرّر من سلطتها، والآخر متمسّك بها ومدافع عن أصالتها بحجج تقدّمها الرواية نفسها. فبطلات المبخوت أقمن مع الطلياني،(عبد الناصر)، علاقات جنسيّة ماجنة بدأتها للاّ جنينة، وهي زوجة إمام الحي، ومع ذلك كانت تخونه.. واستمرّت مع نجلاء المطلّقة التي كانت تخون صديقتها زينة باعتبارها زوجة عبد الناصر. وكان الطلياني يخون زوجته مع كل النساء الجميلات بما في ذلك أنجليكا التي تعرّف عليها في سويسرا خلال زيارته لأخيه صلاح الدين. وقد سافر مع زينة، فلم تمنعه صحبتها من معاشرة الحسناء السويسريّة في غفلة منها.
وعلى ضوء تلك العلاقات التي تتعارض مع القيم والأعراف في كلّ المجتمعات البشريّة تقريبا،  يُخشى أن يكون  المقصود بالتحرّر لدى نساء المبخوت مقتصرا على ممارسة الجنس وخيانة الأزواج ليكون شكلا من أشكال الثورة على ذلك “المجتمع المحافظ المنافق”. فالقارئ لا يظفر بشخصيّة تعطي نموذجا مغايرا ومفهوما أفضل للتحرّر الذي يتحدّث عنه المبخوت.. وحتّى بطل الرواية الذي يدّعي الكاتب أنّ “مشكلته هي تحرير الفرد قبل تحرير المجتمع”، أظهر سلوكا معاكسا في علاقته بالطالبة ريم، آخر فتاة تعرّف عليها قبل نهاية الرواية بصفحات قليلة. فهي ضحيّةٌ أخرى عمل على استدراجها إلى مختبر شهواته، مستغلاّ رغبتها في دخول عالم الفنّ ليفترسها أو “يحتفل بها” كما حدّثته نفسُه عندما استقبلها في بيته بحيّ النصر: “لم ير عبد الناصر أسهل من هذه الصبيّة التي بدت له أوّل الأمر متكبّرة متعالية… بدأ يستعدّ لما هو أهمّ، أراد أن يحتفل بها احتفالا خاصّا“. وقبل ذلك بقليل ألقى عليها محاضرته عن التحرّر من قيود المجتمعات المتخلّفة المنافقة في حديثه عن الفيلم الذي ستكون ريم بطلته. و”تقدّم خطوات في نقد المجتمع واتهمه بالنفاق والكذب وقمع حريّة الفرد. وافقته مرّة أخرى. كان يتكلّم ويراها مسحورة ببلاغته، لا تجد سبيلا إلى إضافة ولو كلمة..، فماذا تفعل هذه الطامحة إلى سحر الشاشة أمام من سيفتح لها أبواب النجوميّة”. )ص 313(
من الصعب أن يقنع المبخوت قارئه بما يروّجه عن شخصياته المناضلة في سبيل التحرّر وهو يشاهد سلوك الطلياني مع ريم.  فقد كان مخادعا، يمارس سلطته المعنويّة على فتاة  تحلم بالنجوميّة ولا ترى مانعا من الاستسلام لرجل يحدّثها عن التحرّر ويستعبدها في الآن نفسه.
ارتكب الطلياني المتحرّرُ جدّا جُرما لا يقلّ خطورة عن الجرم الذي ارتكبه أستاذ زينة، فقد حرمها من النجاح في مناظرة التبريز رغم تفوّقها ونجوميّتها  العلميّة. قضى على مستقبلها لأنها لم تمنحه جسدها، وكان قد هدّدها بذلك ولكنها أصرّت على موقفها المبدئيّ: “حين تكرّرت مغازلته لها وأصرّت على صدّه أصبح يهدّدها بالرسوب وبالنتائج الوخيمة لتصرّفها معه. أفهمته أنّه ليست لها مشكلة أخلاقيّة معه بل مشكلتها مبدئية بما أنّها امرأة متزوجة  )ص280(
في النهاية لم يستطع ذلك الأستاذ النيل من زينة، فعاقبها الكاتبُ/  الراوي منطقيّا بالفشل الدراسيّ الذي قضى على أحلامها في أنْ تصبح أستاذة جامعيّة. ولاحقها الفشل حتّى في باريس، “فلم تحقّق من حلمها إلا أنْ أصبحت تعيش في كنف “إريك” طفلةً شقيةً يتلهّى بها، وهو الشيخ المتصابي بمعاييرنا التونسيّة” (ص290)
وهنا، لا يبدي الراوي تعاطفا مع زينة وهو يذكر “المعايير التونسيّة” دفاعا ربّما عن سلوك إريك في لهوه بفتاة لا يرغب إلاّ في الاستمتاع بجسدها. فهو أكاديميّ فرنسيّ آمن من زمن بقدراتها العلميّة، ولكنّه لم يساعدها على تحقيق حلمها لتصبح أستاذة جامعيّة عندما لجأت إليه بعد تجربة مريرة في الجامعة التونسيّة ..
لماذا كان المبخوت قاسيا على زينة التي قاومت أطماع أستاذها التونسيّ احتراما للمبادئ التي تؤمن بها؟
قال المبخوت في دردشة تلفزيونيّة بقناة الحوار التونسي ما يساعد على الفهم والإجابة عن ذلك السؤال إذْ أكّد أنّ : “رواية الطلياني حديث عن مسار شخص. وهذا الشخص أصنعه كما أحبّ أنا .
من حقّ الكاتب أن يقول ما يشاء، ومن حقّ القارئ الذكيّ أن لا يصدّقه. فقراءة الرواية وتتبّع مسار أبطالها بدقّة، يمكنّه من الانتباه إلى حقيقة أخرى يجهلها الكاتب أو يتجاهلها. فقد كان أبطاله يتصارعون فيما بينهم، ويصارعون الكاتب / الراوي الذي يريد المضيّ بهم إلى نقطة وصول لا يرغبون بالضرورة  في الوصول إليها.
هكذا كانت زينة، التي قاومت قلم المبخوت وهو يخطّ مسارها، فراوغته في غفلة من قناعاته الظاهرة / الباطنة، وهي تتحدّث عن “موقفها المبدئيّ” برفضها خيانة زوجها مع أستاذها الذي وعدها بالنجاح إن مكّنته من جسدها.. نجحت زينة في التصدّي لذلك السلوك المتحرّر” من قيود المجتمع ، فكانت أشبه بشخصيّة “محافظة” تؤمن ببعض “المعايير التونسيّة”. غير أنّ نفاقا من نوع آخر حكم عليها بالفشل. وهكذا، فإنّ زينة لا تشبه بقيّة النساء في رواية الطلياني.  فلا يمكن تسويتها بريم الفتاة السهلة الطيّعة، أو بنجلاء التي كانت أشدّ  النساء عهرا ونفاقا باعتبارها صديقة لزينة وخائنة لها في الآن نفسه.. زينة شخصيّة قاومت إلى درجة جعلت صانعها غير قادر على فهمها جيّدا لذلك أخرسها وقسا عليها عندما أنهى نضالها بفشل مؤلم لا مبرّر له..
حاول الكاتب شكري المبخوت أن يغيّر المجتمع المحافظ، ويتجاوز معاييره الراسخة على أساس التحرّر المزعوم، فلم يقدر على ذلك، وقد أفلتت زينة” من خياره، ونأت بنفسها عن تيّاره، وعادت إلى رشدها، بينما ظلّت بقيّة الشخصيّات التي تحكّم الكاتب في مسارها “مشوّهة مزوّرة، كاذبة، منافقة، معقّدة، خائنة، فاشلة، عاجزة .. “، كما رآها الدكتور سامي براهم في تعليقه على أبطال الرواية بما يتناقض مع رؤية صديقه شكري المبخوت الذي كان فخورا بشخصيّاتهالمتحرّرة“..
وبناء على ما تقدّم، يجوز لنا أن نطرح السؤال التالي: هل فهم الكاتب روايته بعد أن كتبها وحاول مشاركتنا في قراءتها؟
لقد نبّه الروائيّ الفرنسي أنطوان فرانسوا بريفو زملاءه، منذ قرون، إلى خطورة لعب ذلك الدور حين قال: ” ليس من الضروريّ أن يفهم الكاتب ما كتبه، طالما أنّ النقّاد سيفسّرون له ذلك.
فروايةالطلياني” بعد أن وصلت إلى آلاف القرّاء لم تعد كما كانت فور كتابتها في المسوّدة الأولى.. ولعلّ زينة التي أفلتت من أحكام الكاتب ومساراته الجاهزة، حوّلت ما كتبه المبخوت لوجهة يرضاها، إلى رواية مارقة شاردة سيسهر الخلق جرّاها ويختصم.

_____________________

*كاتب تونسي 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه