الضرائب فى مقابل المعاناة

محمد منير*

 
منذ حوالى عشر سنوات حضرت مؤتمراً صحفياً مع وزير المالية آنذاك ، وتوقعنا ان يكون المؤتمر غنياً بالأرقام والاحصائيات ، إلا أن الوزير المالى خيب ظنى وتحول الى واعظ وناقد للشعب المصري لتهربه من الضرائب. وظل يمتدح المجتمعات الاوربية وشعوبها ويكشف عن مزايا حرصهم على سداد ما عليهم من ضرائب وإعتبارهم التهرب الضريبى جريمة مخلة بالشرف .. تسأل الوزير فى استنكار ” ليه الناس بتتصور ان الضريبة فى مصر إتاوة ؟ ” … وهنا فاض الكيل وقاطعته قائلاً “يادكتور هى حقيقى  إتاوة ” .
الحكومات تفرض الضرائب مقابل تقديم خدمات ، إذا فالأمر يتعلق بعملية تجارية انت تدفع جزء من دخلك لتحصل مقابله على سلعة والسلعة هنا هى الخدمات وخاصة فى مجال المرافق الأساسية ة المتعلقة  بالمعيشة .
الواقع مختلف فنحن فى مصر ندفع رسوم على كل خدمة نحصل عليها وهى ليست رسوم بسيطة وليس هذا فقط نحن ندفع رسوم لكل خطوة نخطوها نحو الحصول على خدمة من هذه الخدمات ، منها ماهو رسمى ومنها غير الرسمى ، هذا بالاضافة الى تردى نوع الخدمات  التى يحصل عليها المواطن مصرى مقابل هذه الرسوم.
 أصبح من المؤكد ان الضرائب التى يدفها المواطنين ليس لها أى مرود على حياتهم بشكل مباشر ، فيتوجه تفسيره الطيب الى أن هذه الضرائب تستخدمها الدولة لدعم الجهاز الأمنى  الداخلى لحفظ الأمن وزيادة ميزانية الجيش لحماية حدود البلاد من الغزو والأطماع الخارجية ، ولكن الواقع يصدم دافعى الضرائب للمرة الثانية عندما أدركوا ان أجهزة الأمن بكل امكانياتها وأجهزتها وعدادها وزوادهها لم توفر لهم الأمن حتى أصبح المواطن لازما بيته من المغرب خوقاً من السرقة أو التحرش أو القتل ، ويرى المواطن دافع الضرائب أن كل أمواله التى دفعها أصبحت مصدراً رئيسياً  لتقوية جهاز الأمن السياسى الذى ليس له إلا هدف واحد هو كبت حريته وحماية القيادات السياسية وأصحاب القرار ليس من مؤامرات تحاك ضدهم وانما من مجرد انتقادهم ، وهنا يحاول دافع الضرائب البحث أى مردود لدفع هذه الضرائب  ويرتاح وجدانه عندما يكون الإحتمال ان هذه الضرائب توجه للجيش لحماية أمن البلد الخارجي، ولكن الواقع يصدمه للمرة الثالثة عندما يكشف له ان الوطن أصبح صديقأ  لأعدائه وأن الحدود أصبحت ممرات سياحية يعبر خلالها من يعبر دون ضوابط أوضمانات ، وان تهريب السلع المفيدة والضارة أصبح وظيفة مأمونة للمهربين .
وفى الداخل لا يعرف المواطن اى مردود للضرئب فى مجالات الصحة والتعليم والثقافة، وهى مجالات كلها أصبحت أوكاراً للفساد وساحات للتعذيب .
هنا يقع المواطن فى حيرة من أمره فالجهة الوحيدة التى تستفيد مما يدفعه هى أجهزة الأمن التى تؤمن للحكومات كل ادوات الجباية وتمنعه حتى من مجرد التفكير الاحتجاجى .
بل أن الأمر يصل الى وجود نشاط خفى مواز وقوى لخلق طبقة من سماسرة الفساد ترشد وتنصح وتوجه المواطن الى كيفية التهرب الضريبى وتخفيض هذه الضرائب مقابل وضع جزء منها فى جيوب مسئولين فى الدولة بدلاً من دخولها الخزينة العامة والبحث عن مبررات قانونية لتوزيعها على أصحاب القرار ورجال التنفيذ .
ورجال الدولة يحرصون على اضفاء قيم اخلاقية يؤرقون بها ضمائر المواطنين لو امتنعوا عن دفع الضرائب فيصفوا هذا السلوك بالتخلف والخيانة بل وأحيانا بالكفر ،ولهذا كان لزاما إيجاد طبقة من المنتفعين الجدد من رجال الأخلاق والدين والمبررين السياسيين لتبرير حق الدولة فى جباية الضرائب وتأثيم المنتفع وتبشيره بغضب السماء .
يروى انه فى يوم وقف حجا على منبر فى أحد المساجد وألقى درساً دينيا عن سيدنا عيسى ، وبعد الدرس جاءته امرأة وقالت له ” يا جحا ما أرقنى فى درسك إلا سؤال واحد وهو إذا كان سيدنا عيسى ضيفا على السماء الآن فكيف يأكل وكيف يشرب ؟  ” .. فنظر لها جحا بغيظ وقال لها  ” يا امرأة أتسألينى عن سيدنا عيسى فى السماء وهو غارق فى نعيم الله ، بينما أنا ماكث فى قريتكم شهرين ولم يتذكرنى أحد بوجبة ؟!! ”
هكذا ينظر الشعب لموقف الواعظين وأصحاب نظريةالتأثيم  للمتهربين من دفع الضرائب واعتبارهم كفاراً ويغضون البصر عن معاناتهم الصحية والثقافية والتعليمية والأمنية .
الشعب المصرى ياسادة لا يتهرب من الضرائب ولكنه مثل جحا يرى أنه أولى فى الدنيا ممن هم قابعين فى السماء .
عندما يعانى انسان فى الحصول على مصدر رزق أودخل يوفر له حياة انسانية كريمة ، وعندما تنهار صحته ولا يجد من يعالجه وعندما يغرق فى جهل وإنهيار ثقافى وتعليمى ، وعندما يعانى من بطش أمنى وضألة بين شعوب العالم وإهانة ، عندما يحدث له كل هذا ولا يبحث عن وسيلة للتهرب من دفع ثمن معانته فهو انسان غير سوى

________________

كاتب وصحفي مصري 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه