الصحفيون المصريون .. الصعود إلى الهاوية

فنجد مثلا أن عبد الناصر كانت تجمعه بالجماعة الصحفية علاقة صداقة نفعية غير مأمونة الجانب.

منذ أيام قليلة اُستدعى صحفى ، يشغل منصب رئيس مجلس إدارة صحيفة خاصة والمشرف على عدة صحف أخرى، عدداً من الصحفيين العاملين فى الصحيفة وأخطرهم بإنهاء خدمتهم فى المؤسسة لمعارضتهم سياسات رئيس الجمهورية مالك المؤسسة، حسب قوله . وفى هذا اللقاء قال لهم رئيس مجلس الإدارة نصا “لا يستطيع أحد في جريدة المصري اليوم أن يختلف مع صلاح دياب ولا أن يتعرض خبريا لمحل “لابوار” للحلويات المملوك له وذلك لأنه مالك الجريدة، وأن مالك الجريدة هو الرئيس عبد الفتاح السيسي وأنتم خذلتوه عندما وقعتم على بيان إدانة موقف مصر من اتفاقية تيران وصنافير، فطلبت منى أجهزة الأمن التخلص منكم” .

تدني أدوات المواجهة

  وبصرف النظر عن صدق تدخل رئيس الجمهورية من عدمه، فالأمر هنا لا يتعلق بقيود على حرية الصحافة والتعبير، فالقيود فى هذا المجال موجودة منذ عشرات السنوات، إنما الأمر يتعلق بمحورين مهمين، الأول يتعلق بتدنى أسلوب وأدوات المواجهة بين النظام الحاكم والصحفيين، والمحور الثانى يتعلق بالتغير القيمي والمبدئى لدى الجماعة الصحفية ونقابتهم فى أسلوب مواجهة هذه القيود والتصدى لجبروت النظام وبطشه.

بإطلالة تاريخية سريعة للعلاقة بين الجماعة الصحفية والنظم الحاكمة يظهر لنا بوضوح التشابه الذى يجمع بين كل الأنظمة الحاكمة فى ممارسة القمع والاضطهاد وتكبيل حرية التعبير، وإن اختلفت صور المشاهد حسب خبرة كل نظام وذكائه .. وعلى العكس يظهر لنا الاختلاف والتباين الشديد فى موقف الجماعة الصحفية الناجم عن انهيار فى مظلة الحماية النقابية والانهيار النسبى فى بنية الجماعة الصحفية، والذى انعكس على أداء المجالس النقابية المتعاقبة  وصلابتها فى مواجهة بطش السلطة .

الحقيقة أن التناقض بين الأنظمة والصحافة قديم وله ملامح وشواهد كثيرة منها القيود التى فرضت على النشر بعد قضية الأسلحة الفاسدة عام 1948 وفضائح الأسرة المالكة .

وبعد ثورة 1952 وتحديداً بعد الإطاحة باللواء محمد نجيب وتولي جمال عبد الناصر رئاسة الجمهورية، بدأت العلاقة بين النظام الحاكم والصحافة تتماوج ما بين المد والجذر تحت المظلة الوهمية للمادة 72 من الدستور (تلتزم الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة لها، بما يكفل حيادها، وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص فى مخاطبة الرأى العام.) فنجد مثلا أن عبد الناصر كانت تجمعه بالجماعة الصحفية علاقة صداقة نفعية غير مأمونة الجانب، فعلى سبيل المثال نشأت صداقة قوية بين إحسان عبد القدوس والضباط الأحرار منذ تبني إحسان قضية الأسلحة الفاسدة، وتوطدت علاقته بعبد الناصر واستمرت قوية بعد الثورة، ولكن هذه الصداقة لم تجنب “عبد القدوس” مرارة الاعتقال فى أول خلاف بينه وبين ” ناصر” ، ولم تمنع صداقة عبد الناصر بأحمد أبوالفتح الصحفى الوحيد الذي كان يعرف ميعاد الثورة، من أن يقوم “ناصر” بإغلاق جريدة “المصرى” المملوكة لشقيقه محمود أبو الفتح “، والتى كان يعمل بها أحمد ابوالفتح بسبب موقفها من الديمقراطية ومطالبتها بعودة الجيش للثكنات.

التشريد

أما السادات فقد اتجه إلى تشريد الصحفيين المعارضين لاتفاقية السلام مع إسرائيل وشطبهم من نقابة الصحفيين، وهو ما تصدى له كامل الزهيرى نقيب الصحفيين آنذاك مدعوماً بقوة الجماعة الصحفية .

وكان موقف مبارك أكثر فاجومية تجاه الصحفيين، وهو ما كشف عنه الكاتب محمد حسنين هيكل فى أحد مقالاته من أن مبارك قال له “الصحفيون دول عالم لَبَطْ  يدَّعون أنهم يعرفون كل شيء، في حين أنهم هجاصين لا يعرفون شيئًا، فالحين قوى، ولابد أن ينكشفوا أمام الناس على حقيقتهم.. خليهم يغلطوا”.

والحقيقة أن نفس العدائية بين النظام الحاكم والصحافة وحرية التعبير لم تختلف كثيراً من نظام لآخر حتى يومنا هذا، وإن كان نظام “السيسى”  أكثر بطشا وإفسادا وتدميرا لحرية التعبير وللجماعة الصحفية ذاتها .

وربما يرجع ذلك إلى حالة الخواء السياسى والافتقار إلى تراث الحكم المصابة به جماعة صناع القرار المحيطة بالسيسى، ولكن المؤكد أن المتغير والعطب الذي أصاب الجماعة الصحفية فى قيمها وتراثها كان له التأثير الأكبر فى تشجيع نظام السيسى على البطش بالإعلاميين، وانعكس الأمر على نقابة الصحفيين الذي كان دورها الأساسى تفعيل مظلة الحماية النقابية على الصحفيين من بطش السلطة الناجم عن التعارض بين السلطة والإعلام بسبب طبيعة العمل الصحفي. 

 وانحرفت النقابة عن دورها وتدهور دورها تدريجيا حتى تحول مجلس النقابة إلى الكرباج الذى يؤدب به النظام الصحفيين المعارضين له، وبنظرة مقارنة لبعض الأحداث يتضح هذا التردى، وعلى سبيل المثال، وكما ذكرت عقب اتفاقية كامب ديفيد طالب السادات كامل الزهيرى نقيب الصحفيين بشطب الصحفيين المعارضين للاتفاقية، ورفض الزهيرى وتحدى السادات ورفع فى مواجهته شعار “العضوية كالجنسية لا تسقط عن الصحفى”، المقابل لهذا المشهد الآن نقابة الصحفيين وهى تحيل عضوين من أعضاء المجلس للتحقيق بسبب مشاركتهما فى فاعليات الاحتجاج على توقيع اتفاقية تيران وصنافير التى رفضها الشعب المصرى، وقبل يوم الاحتجاج خرج نقيب الصحفيين عبد المحسن سلامة ليدين تجمع الصحفيين فى النقابة فى إشارة واضحة للأمن للاعتداء عليهم وهو ما حدث .

كامب ديفيد

ومشهد آخر عندما طلب السادات من رؤساء مجالس إدارات الصحف الضغط على الصحفيين المعارضين لكامب ديفيد، فقام موسى صبرى رئيس مجلس إدارة صحيفة الاخبار، والمقرب من السادات باستدعاء الصحفيين المعارضين للاتفاقية وهددهم قائلا “، لا أريدكم الموافقة على كامب ديفيد ولكني أريدكم أن تحبوها” فما كان من هؤلاء الصحفيين إلا أن تمسكوا بموقفهم وعارضوا الاتفاقية بشدة، ولم يستطع أحدٌ فصلهم أو التنكيل بهم أو الاقتراب منهم، والمشهد المقابل اليوم فى صحيفة “اليوم السابع” الموالية للسلطة ورئيس مجلس إدارتها خالد صلاح يتفاخر ويتنافخ بعلاقاته الأمنية، ويهدد بها شباب الصحفيين بالاعتقال ويفصل الرافضين لاتفاقية تيران وصنافير من العمل، مؤكدا أن من طلب منه ذلك رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسى  باعتباره المالك الجديد للجريدة، بينما النقابة تجرى المفاوضات لتخفيف حدة العقوبة على الصحفيين أو الحصول على تعويض لهم؟!!

ومبارك عندما حاول تقييد حرية الصحافة بالقوانين تعرض لمواجهة مع الصحفيين عامى 1996 و2004 وشهدت المواجهات اعتصامات قوية وتكاتفت المؤسسات الصحفية واحتجبت احتجاجا على هذا التدخل فى عمل الصحفيين وتقييد حريتهم أدى ذلك إلى تراجع مبارك. والمشهد المقابل الآن الأمن يقتحم نقابة الصحفيين، ويتم إحالة نقيب الصحفيين السابق ووكيلي النقابة السابقين للمحاكمة لأنهم طبقوا قانون النقابة فى حماية الصحفيين، ويصدر حكماً بحبسهم عاماً مع وقف التنفيذ ويخرج نقيب الصحفيين الجديد ليعلن أن الحكم عادل … هل أدركتم الفرق يا سادة وفى أى مناخ ” ديمقراطى” نعيش ؟!

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه