الصحفيون.. أبناء الأجهزة الأمنية

سعيد شعيب*

ما زلت اذكر مقابلتي مع النجم الإعلامي الساطع الآن. كان ذلك في عزاء بمسجد عمر مكرم عقب ثورة يناير بعدة شهور. قص شعر رأسه وكأنه خارج تواً من السجن، وترك لحيته الخفيفة على غير عادته.

كان حزيناً ومكسوراً وقال لي بأسى “ارجوك محتاج اكلمك وآخد رأيك في حاجات كتير”.

كان الرجل أحد أبناء نظام مبارك المخلصين.

ومثله وقتها من طلب مني بإلحاح أن أدعوه إلى أي ندوة أو ورشة عمل. ومنهم من كان يدخل من باب المؤسسة الصحفية العريقة التي يعمل بها، لا يجرؤ على وضع عينيه في عين أحد، ويجري ليختفي عن الأنظار بجوار أي حائط.

هؤلاء وأشباههم هم الذين يتصدرون المشهد السياسي والإعلامي، هم الذين يصرخون في وجوهنا نحن المشاهدين الغلابة، يصدرون الأوامر والتعليمات، ويحشون رؤوسنا بكلام فارغ. إنهم أبناء الأجهزة الأمنية.

هم الذين يتفاخرون علناً بأنهم كانوا “مرشدين” ويكتبون التقارير ضد زملائهم، وضد التيار السياسي الذين ينتمون إاليه. بل  ولا يجدون أي غضاضة في أن إثارة ذات القضية  في ذات الوقت مع زملائهم من أبناء الأجهزة وبذات الطريقة في برامجهم وصحفهم  طبقاً للتعليمات، ودون أي اجتهاد حتى في التخفي، ودون أي اجتهاد في تغيير الصياغات أو التوقيتات مثلما كانوا يفعلون قبل 3-7 . ومثلما كانوا يفعلون قبل ثورة يناير المجيدة.

صحيح أنهم كانوا كثر في عهد مبارك، لكنهم كانوا يعملون في الخفاء لصالح هذا الجهاز الأمني أو ذاك. وإذا تكشف أمرهم لسبب أو لآخر، كانت كارثة، وعار يلاحقهم أينما ذهبوا. تجريس علني يحرم الواحد منهم من الاحترام ومن الصداقات الحقيقية.

لعل العديد من زملائي في مهنة الصحافة يتذكرون الانزعاج الشديد لأي زميل عندما يقال عنه “مندوب وزارة الداخلية في الجريدة وليس العكس”. ولعل من عملوا بالسياسة سواءً في تنظيمات سرية أو أحزاب علنية يعرفون أنه إذا أردت ذبح خصمك، فما عليك ألا أن تشيع أنه “أمن”.

هؤلاء الأبناء كانوا درجات، منهم من كان يعمل لدى أمن دولة الآب الشرعي للأمن الوطني الحالي. وهؤلاء كانوا درجة اقل. والأعلى منهم من يعمل لدى “الأمن القومي” ، أي المخابرات العامة أو الحربية. وهؤلاء كانوا درجات، منهم الخدم، وهو الذي ينفذ الأوامر ويكتب التقارير . وهذا أحط نوع، لأنه في النهاية “مخبر” و”جاسوس” ضد زملائه. والنوع الثاني متعاون بشياكة، أي يقدم ذات الخدمات، ولكن في شكل استشارات ونصائح، ولكنه يحقق ذات الأهداف ويحصل على ذات المنافع. النوع الأرقى من كل هؤلاء، هو من يقدم نصائح سياسية، وربما دراسات يتبرع بها أو يطلبونها منه. ولا يتورط في الصغائر، يحافظ على “برستيجه”، وهذا في الغالب  لم يكن يتعاون مع ـأمن الدولة ولكن مع المخابرات.

هنا لابد أن نضيف نوعاً يتعامل مع الأجهزة الأمنية بحكم طبيعة عمله، أي رؤساء التحرير مثلاً أو رؤساء المحطات الفضائية وأي مواقع قيادية في هذه المؤسسات. 

وفي بلد مثل مصر قبل الثورة، لابد “غصب عنك” يكون فيه تعاون، ليس لأن الأجهزة الأمنية مصادر معلومات وأخبار فقط، ولكن ايضاً وهو الأهم أنه في أي بلد غير ديمقراطي لابد أن تتضخم مثل هذه الأجهزة تأخذ أكبر من حجمها ومن وظيفتها وتنتشر في كل ثنايا المجتمع. هنا لابد لرئيس التحرير أحياناً يمرر أخبار وغيرها لهذه الأجهزة مضطراً، ومنها أن تمرر له ضربات صحفية. ولكن هذه العلاقة التبادلية تختلف تماماً عن علاقة “البنوة”، أي أبناء الأجهزة. 

لا أظنك بحاجه لأن أحدثك عن المنافع التي يحصل عليها أبناء الأجهزة من مناصب وعقارات وأراضي وحماية ونفاذ لكل مؤسسات الدولة.

لكن لابد أن  نفتح قوس ونشير الى أن مؤسسات الدولة بشكل عام والأجهزة الأمنية بشكل خاص، تضخمت تدريجياً بعد الإطاحة بأول رئيس جمهورية هو محمد نجيب وتولي جمال عبد الناصر. فقد كان مشروعه الأساسي هو أن تصبح الدولة بمؤسساتها هي اللاعب الرئيسي وأحياناً الوحيد. فهي التي تقود الاقتصاد وتبني المصانع وتوظف العمال. وهي التي تحدد للقطاع الخاص في ماذا يعمل؟. وهي التي تتولى الصحة والتعليم وغيرها. ليس بمعنى مسئوليتها عن تقديم الخدمة، ولكنها هي التي تنتج الخدمة نفسها وفي مجالات بعيدة عنها مثل المسرح والسينما والنشر وغيرها وغيرها.

ذات الأمر حدث في السياسة، فقد تم تأميم العمل الحزبي، فلم يعد هناك سوى حزب السلطة بمسميات مختلفة ( الاتحاد القومي، الاتحاد الاشتراكي). وكان طبيعياً أن هذا التضخم في دور مؤسسات الدولة يتبعه تضخم في الأجهزة الأمنية، من زاوية الكم ومن زاوية النفوذ والتوغل في كل مناحي الحياة. وهو ما استمر في عهد الرئيس السادات، بأدوات اخرى. فتم السماح بأحزاب تحت السيطرة وبنشاط أوسع للقطاع الخاص في الاقتصاد ، ولكن أيضاً تحت السيطرة. ولم يتغير الأمر كثيراً في عهد مبارك.

أجهزة الدولة وخاصة الأجهزة الأمنية أصابتها ضربة قاتلة بعد ثورة يناير المجيدة، فقد تفككت وانهارت كما بدا في الظاهر.

ما زلت أذكر رد فعل ضابط شرطة عندما رفضت دفع مبلغ إضافي على تأجير قاعة في أحد الفنادق، ولم يكن معه ما يثبت أن هذه الجباية قانونية. دعك من التفاصيل، لكن ضابط الشرطة لم يرفض النقاش، وعاد لرئيسه، وفي النهاية لم أدفع شيئاً. ذات الضابط قابلته مصادفة فيما بعد، وقال لي إنه فعل ذلك دون إرادته، وإن هذه المبالغ الإضافية تتبع ما يسمى ” بصناديق الشرطة”، التي يتم تمويلها من هذا النوع من الجباية، وإن الذي يحصل على نصيب الأسد منها كبار ضباط الداخلية. 

في هذا التوقيت قدمت العديد من المنظمات الحقوقية مشاريع جادة لإعادة هيكلة جهاز الشرطة وتطويره. كما قدم سياسيون وأحزاب مشروعات محترمة، منها الحزب الديمقراطي الاجتماعي، لتطوير أداء الشرطة، ونقلها من خانة خدمة السلطة الحاكمة أياً كانت، إلى خانة أنها جهاز يعمل بشكل مهني في حفظ الأمن العام لصالح الناس وليس الحكام.

لكن للأسف اللاعبين الرئيسيين في الساحة بعد يناير ( المجلس العسكري والإخوان ومن بعدهما قوى ليبرالية) لم يكن هذا من أولوياتهم، ولم تكن لديهم إرادة سياسية حقيقة وجادة. فقد كان هدفهم: نصل إلى الحكم ونستخدم الأدوات القديمة لصالحنا، ولم يكن الهدف هو بناء مؤسسات دولة مهنية ومستقلة لا علاقة لها بالسياسة وصراعاتها.

تدريجيا استعادت الشرطة ومعها الأجهزة الأمنية عافيتها، ولكن بذات الأدوات القديمة، ودون أي تغيير. وتدريجياً دخلت هذه الأجهزة ساحة الصراع السياسي وأصبحت طرفاً اساسياً ولاعباً رئيسياً.

هنا بالضبط تعاظم دور أبناء الأجهزة، أصبحوا هم رأس الحربة، وانتقلوا من خانة الخجل من أي علاقة مع الأجهزة الأمنية، إلى خانة الفخر العلني بأنهم “مخبرين ومرشدين ولينا الشرف” . ويحصلون على البرامج والشهرة والسلطة والمال الوفير. وبدأت حرب هذه الأجهزة بأبنائها ضد الخصوم السياسيين بعد الإطاحة بالإخوان. فتمت التصفية والتشهير الجماعي بشركاء ثورة يناير ، وشركاء ثورة 30-6 .. لندفع جميعاً ثمن أننا لم نملك الإرادة الكافية  لتغيير جذري في مؤسسات الدولة. فقد تصور الكثير من الحالمين أننا يمكن أن نبني دولة جديدة بأدوات قديمة.  وقاتل انتهازيون للوصول إلى السلطة بأي ثمن ، واستخدموا هذه الأدوات القديمة لصالحهم وحدهم. صحيح أن ما مضى لا يعود من جديد، ولكن دروس التاريخ دوماً باقية لمن يتعظ.

_______________

*كاتب وصحفي مصري        

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه