الشيخ محمد الصغير .. وإعادة اكتشاف مواقف شيخ الأزهر

هذا هو موقف شيخ الأزهر من قضية الدماء

العالم الأزهري الشيخ محمد الصغير مستشار وزير الأوقاف في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي قال في برنامج “من الآخر”، على قناة ” وطن” التابعة للإخوان، والتي تُبث من تركيا: ” أُثير في الفترة الأخيرة لغط بشأن اتصال هاتفي مع فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وهناك مواقع إخبارية مقربة من الإخوان نشرت عن هذا الاتصال، وذكرت على لساني أنه جرى اتصال مع شيخ الأزهر، وقد أخبرني بموعد مجزرة فض اعتصام رابعة، وأنني أبلغت الإخوان بذلك، لكن هذا لم يحدث”.

ويوضح الشيخ الصغير ما حدث قائلا: إن النائب السابق محمد عبدالعليم داود، وهو قيادي وفدي، وكان وكيلا لبرلمان الثورة، اتصل بي، وقال لي يا فضيلة الشيخ جاءني اتصال من شيخ الأزهر، ومضمونه أنه يستشعر خطرا كبيرا في الأيام القادمة، ويستشعر أن شيئا كبيرا سيحدث، وبالتالي نريد عمل أي شيء إبراء للذمة، أو لإيقاف هذا الخطر، ويمكن مثلا أن نعقد مؤتمرا، أو نصدر بيانا، وشيخ الأزهر طلب مني دعوة العقلاء من كل الاتجاهات والفصائل، ولذلك اتحدث إليك من هذا المنطلق.

قلت له يا محمد بك سأسألك سؤالا: أنت كنت وكيل البرلمان، وكان رئيسه الدكتور سعد الكتاتني، ولو وضعت جدولا من خانتين، وكتبت في خانة كلمة “إسلامي”، وفي الثانية ” ليبرالي”، هل كان الكتاتني أقرب إليكم أنتم، أم إلينا؟، أجاب أنه كان أقرب إلينا.

ويواصل الصغير سرد رده على داوود حيث قال له: في تقديري أن من يعتقل الكتاتني، والدكتور حلمي الجزار، وهما صمام الأمان، ووسيلة التواصل مع الأجهزة، فإن الرسالة تكون وصلتني بأن هذا الرجل سيكمل “الدموية”.

الخلاصة أن شيخ الأزهر لم يتصل بي، ولم يبلغني شيئا عن الفض، ولم أبلغ الإخوان بشيء، وما نُسب إلىّ كذب صراح، وما فهمته من موقف شيخ الأزهر أنه كان ضد الفض، بدليل هذا الاتصال مع وكيل البرلمان السابق، وقد عدت وسمعت تعليق شيخ الأزهر على الفض، وقال فيه إن الأزهر لم يعرف بهذا الأمر، ولم يُستشر فيه، وأنا عرفت من الإعلام، ونحن براء من كل دم مصري، وكون الطيب وقف على منصة 3 يوليو 2013 فهذا شيء آخر، وهو قال إنه اختار أخف الضررين، لكني لا أقول إنه أحل الدماء، والآية الكريمة تقول “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا”

رأس المؤسسة الدينية

هذا هو توضيح الشيخ محمد الصغير نصا كما قاله في البرنامج، وتدخلت فقط لضبط صياغة بعض العبارات الشفهية لتناسب النشر، وهو كلام مهم، ورأيت أنه من الضرورة بمكان التوقف عند هذا الحديث لتجلية مواقف وأمور تطويها الأحداث الكثيرة المتتالية، وتظل تضع أصحابها موضع شبهة خاصة في قضية الدماء، وهى الأخطر على الإطلاق، فالصراعات في مجال السياسة والحكم والسلطة والنفوذ والمال وكل متاع الدنيا وبريقها لا يساوي شيئا مقارنة بالصراع على الدماء واستباحتها وسفكها.

 وأحيانا أقول إنني تمنيت لو لم تكن قد قامت ثورة، أو سقط مستبد، إذا كان الثمن هو الدماء البريئة، والمجتمع الذي ينقسم، والكراهية التي تتعمق، والتحريض الذي ينتشر، والتشريد داخل وخارج البلاد، والوطن الذي يصير مجالا للمزايدات، والوطنية التي باتت تُباع وتُشترى مثل صكوك الغفران المزيفة.

توقفت أمام كلام الشيخ الصغير أيضا لأنه يتعرض فيه لموقف شيخ الأزهر رأس المؤسسة الدينية في مصر، والشخصية الإسلامية ذات البعد الروحي والديني المهم والمؤثر في العالم الإسلامي، والشخصية التي لها رمزية وحضور خاص في العالم كله، وإذا أحل الدماء البريئة بغير حق تلميحا أو تصريحا، فتلك مصيبة المصائب، وكبيرة الكبائر، وهذا لم يحدث، لكن أن يكون الأزهر وشيخه أقرب إلى السلطة خصوصا في زمن الجمهورية في مصر فذلك يكون ضرره أخف، وتداعياته أقل، ويكون مجال أخذ ورد ونقاش وانتقاد أيضا.

شيخ الأزهر هو مرجعية عليا للمسلمين، لكنه في نفس الوقت مرجعية للإنسانية بمواقفه التي تحيي الإنسان، وترفع من قيمته، وتحافظ على كرامته، وتصون حريته، مثل بابا الفاتيكان المرجعية المسيحية العليا الذي يدافع عن الإنسانية، ويقدم دوما رسالة محبة وسلام وتعايش للعالم بغض النظر عن دين ومعتقد المظلومين والمضطهدين، ومن هنا كان حديث الصغير المهم حول براءة الإمام الأكبر من دم المصريين، ومن هذه النقطة يكون حديثنا الذي يستلهم ما قاله الصغير فيتعقب مواقف الشيخ أحمد الطيب في ثلاثة أحداث دامية لنكتشف أنها تليق به وبالمؤسسة الأزهرية وبالإنسانية التي يُعد أحد رموزها الروحيين، ومشكور الدكتور محمد الصغير أن حفزني لإعادة الاستماع إلى ثلاثة فيديوهات وتفريغها لشيخ الأزهر أعقبت الأحداث الدموية أمام دار الحرس الجمهوري، ويوم فض رابعة، و في الأحداث التي تلت رابعة في رمسيس، ومناطق أخرى في مصر، وكلها تصب في خانة واحدة مؤكدة، وهى تأكيد الأزهر لحرمة الدماء، وإعلان البراءة من سفكها، والدعوة إلى المصالحة الوطنية، والتبيان التالي أكثر تفصيلا، وتطلبته فكرة وقضية هذا المقال، ليس دفاعا عن أحد، إنما بحثا عن الحقيقة المجردة المنزهة عن الغرض والهوى.

أحداث الحرس الجمهوري

تلك كانت فاتحة الدماء في مرحلة ما بعد 3 يوليو 2013، ووقعت فجر 8 يوليو 2013، ولم يصمت الأزهر، بل خرج ببيان سريع ألقاه الطيب بنفسه، ومن سيقرؤه بعناية سيجد أنه يحمل موقفا مبكرا ضد القتل للمسالمين بأي صورة أو شكل، ولا أبالغ إذا قلت إنه كان بيانا قاسيا على السلطة التي تولت مقاليد الأمور في البلاد، ويطرح مجموعة من المطالب عليها، ويهدد بالاعتكاف في منزله.

يقول الطيب نصا في بيانه: “نستنكر وندين ونتألم أشد الألم لما حدث فجر اليوم من سفك للدماء المصرية الزكية، ولا نملك الآن إلا أن نعزي أسر الشهداء، ونواسي الجرحى والمصابين من جميع أبناء مصر، ويصارح الأزهر الشريف القائمين على أمر هذا الوطن بضرورة اتخاذ ما يلي.

 أولا: فتح تحقيق عاجل في أمر هذه الدماء التي سالت في هذا اليوم، وقبله، وإعلان نتائج التحقيق أولا بأول على جماهير الشعب المصري حتى تتضح الحقيقة، وتوئد الفتنة في مهدها.

ثانيا: تشكيل لجنة للمصالحة الوطنية خلال يومين على الأكثر حفظا للدماء، وإعطاء هذه اللجنة صلاحيات كاملة لتحقيق المصالحة الشاملة التي لا تقصي أحدا من أبناء الوطن، فالوطن ليس ملكا لأحد، لكنه ملك للجميع، بل ويسع الجميع.

ثالثا: الإعلان العاجل عن مدة الفترة الانتقالية، والتي ينبغي ألا تزيد على ستة أشهر، والإعلان عن جدول زمني واضح ودقيق للانتقال الديمقراطي المنشود الذي يحقق وحدة المصريين ويحقن دماءهم، وهو الأمر الذي من أجله شاركت في حوار القوى والرموز الوطنية والسياسية.

رابعا: يهيب الأزهر الشريف بجميع وسائل الإعلام المختلفة بضرورة القيام بالواجب الوطني في تحقيق المصالحة الوطنية، ولم الشمل، وتجنب كل ما من شأنه أن يثير الاحتقان، أو يزيده اشتعالا.

خامسا: يطالب الأزهر الشريف بإطلاق سراح جميع المحتجزين والمعتقلين السياسيين، وإتاحة الفرصة لهم للعودة إلى بيوتهم وحياتهم العادية آمنين مطمئنين، كما يؤكد على واجب الدولة في حماية المتظاهرين السلميين، وتأمينهم وعدم الملاحقة السياسية لأي منهم.

سادسا وأخيرا: إنني إذ أدعو كل الأطراف على الساحة المصرية لتحكيم صوت العقل والحكمة قبل فوات الأوان، فإنني من خلال مسؤوليتي الدينية والوطنية أدعو جميع الأطراف إلى الوقف الفوري لكل ما من شأنه إسالة الدماء المصرية الزكية، وأعلن للكافة في هذا الجو الذي تفوح فيه رائحة الدم، ولايفارق ذهني فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لزوال الكعبة حجرا حجرا أهون عندا لله عز وجل من إراقة دم مسلم بغير حق، أعلن للكافة في هذا الجو أنني قد أجد نفسي مضطرا لأن اعتكف في بيتي حتى يتحمل الجميع مسؤوليته تجاه وقف نزيف الدم، منعا من جر البلاد إلى حرب أهلية طالما حذر الأزهر، وطالما حذرنا من الوقوع فيها”.

أحداث فض رابعة

على نفس النهج في رفض إسالة الدماء، والدعوة للمصالحة الوطنية، جاء البيان الثاني للأزهر، والذي ألقاه أيضا الدكتور الطيب يوم الفض الأليم 14 أغسطس 2013، وقال فيه نصا:

“إن الأزهر الشريف وهو يسعى لجمع أطراف الصراع السياسي على مائدة حوار جادة مخلصة للوصول إلى حل سلمي للخروج من الأزمة الراهنة، ليؤكد دائماً على حرمة الدماء، و على عظم مسؤوليتها أمام الله و أمام الوطن و التاريخ، و يعلن الأزهر أسفه وحزنه لوقوع عدد من الضحايا صباح اليوم، و يترحم عليهم، ويعزي أسرهم، و يكرر الأزهر تحذيره من استخدام العنف، وإراقة الدماء، و يذكر بقول النبي صلى الله عليه و سلم ” لزوال الدنيا على الله أهون من دم أمرئ مسلم “، ولا يزال الأزهر على موقفه من أن استخدام العنف لا يمكن أبداً أن يكون بديلاً عن الحلول السياسية، وأن الحوار العاجل و الجاد هو الحل الأوحد للخروج من هذه الأزمة إذا صدقت النوايا .

و يدعو الأزهر جميع الأطراف إلى ضبط النفس، و تغليب صوت الحكمة و العقل، و مصلحة الوطن، والحفاظ على الدماء الزكية بكل السبل، والاستجابة للجهود الوطنية لتحقيق المصالحة الشاملة، وإيضاحا للحقائق، وإبراء للذمة أمام الله والوطن، يعلن الأزهر للمصريين جميعاً أنه لم يكن يعلم بإجراءات فض الاعتصام إلا عن طريق وسائل الإعلام صباح اليوم، كما يطالب الجميع بعدم محاولة إقحام الأزهر في الصراع السياسي”.

أحداث ما بعد الفض

وفي أحداث ما بعد الفض، تحدث الطيب يوم 17 أغسطس 2013 للمرة الثالثة في غضون 40 يوما مكررا موقفه الثابت بضرورة حقن الدماء، وتحريم إزهاق الأرواح البريئة، وحماية المتظاهرين السلميين، والتصالح الوطني، وعدم التخوين لأحد، وهذا ربما كان استشعارا مبكرا منه بجريمة التخوين والعمالة التي ستنتشر على نطاق واسع فيما بعد، تلك الكلمة المطولة وجهها مباشرة هذه المرة للشعب وخاطب فيها مؤسسات رسمية، وجماعات وطوائف دينية وسياسية وشعبية موجها رسائل إليها، وكعادته في البيانين السابقين فإنه استخدم وصف الشهداء على الضحايا.

.. هناك كلام كثير يمكن أن يُقال، لكن بيانات الأزهر الثلاثة، واستقالة الدكتور محمد البرادعي يوم الفض، كانت المواقف الأساسية التي تعاملت بتوازن وإنصاف مع تلك الأحداث الرهيبة، ويليها في الأهمية انسحاب حزبي النور، ومصر القوية من التعامل مع السلطة بشأن تنفيذ خريطة الطريق.

تقديري أن شيخ الأزهر، والبرادعي، كان بمقدورهما القيام بدور حقيقي في منع الانزلاق إلى دوامة الدماء، ووقف اتساع الخصام والصدام، لكن يبدو أن طرفي الأزمة: السلطة، والإخوان، لم يكونا منذ البداية على استعداد لذلك، لقد دخلا في صراع صفري، وهذه قضية تحتاج حديثا آخر أكثر تفصيلا.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه