الشمال السوري بين الاحتطاب والتترس

 

احتاجت البشرية الحطب عند اكتشاف النار في عصور ما قبل التاريخ، وأوّل اكتشاف له كان في مصر..

يُشكّل الحطب في كلّ تجلياته الحماية والدّفء والأمان للبشر. سواء كان وقوداً للنّار أو أداة مثل “الفأس، والسرير، وأواني الطعام، والأبواب” وكلّ ما يلزم الإنسان في حياته اليومية.

الاشتقاق اللغوي الوحيد للفعل ” احتطب” غير تعبيره عن جمع الحطب لإيقاد النّار هو احتطاب المطر للزرع بقلع أصوله، ومن هذا المعنى المحتوي على العنف أخذ جهاديو القاعدة التّسمية ليطلقوها على فعل أشد عنفاً وتوحشاً من اقتلاع المطر لجذور الزرع، وكانوا بذلك أوّل من يعطي اللفظ بعداً دلالياً جديداً عبر التّاريخ اللغوي لفعل “احتطب”.

الاحتطاب الممانع:

لا يقتصر الاحتطاب عملياً وباستخداماته الحديثة على الفصائل المسلحة في الشمال السوري وإنما هو امتداد لما كانت قد استقرت عليه مفاهيم معظم التنظيمات الجهادية المنبثقة عن القاعدة أو المتوائمة معها. فقد قامت به المليشيات المُسلّحة التّابعة للنظام السوري في جميع المدن السورية المحتلة كما قام به الجيش السوري الممانع وكذلك أمراء الحرب الجهاديون القادمون من جميع دول العالم للقتال على الأرض السورية، وهو يعني بمفهوم هؤلاء السّطو المسلح على أموال الآخرين كي يستطيع المجاهدون الاستمرار في القتال وذلك لتخلي الداعمين عنهم ولطمعهم الذي لا ينتهي.  وهو منبثق أصلاً من الاستسراق أو التلصص.

التحايل على السنة النبوية والقرآن:

الاتكاء على الدين في تحليل الاحتطاب قياساً ففي الحديث الشريف يقول الرسول صلى الله عليه وسلّم “المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ، والماء، والنّار”.

وفسّر العلماء الحديث أنّ المراد منه ليس الأرض الفضاء التي لا يملكها أحد فذلك أمر بدهي، لكنّ المراد ما ينبت في الأرض المملوكة مما أنبته الله من غير جهد صاحبها.

ولأنّ غزو الفئة المرتدة واغتنام أموالها بالقوة جائز بلا خلاف فقد لجأ المسلّحون إلى تكفير كلّ من يريدون السّطو عليه ونهب أمواله، وقد انتشرت في الآونة الأخيرة عمليات الاختطاف والسطو المسلح وسرقة السيارات في المناطق المحرّرة الخاضعة للفصائل المسلّحة، وآخرها كانت اختطاف الدكتور محمود مطلق من إدلب وتعذيبه بطريقة وحشية والإفراج عنه بكفالة قدرها 125 ألف دولار! وتوالت عمليات الاختطاف.

وبحسب القاعدة الفقهية فإنّ الغنائم المأخوذة عن طريق التلصص (وهو التسلّل إلى ديار العدو وسرقة أمواله والعودة بها إلى ديار المسلمين) يجب أن يوزعها أمراء الجهاد حسب التقسيم الذي جاء في قوله تعالى في سورة الأنفال: “واعلموا أنّما غنمتم من شيء فإنّ لله خمسه وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله”. هذا إن سلّمنا جدلاً بأنّ ما يقوم به أمراء الجهاد في المناطق المحرّرة يعتمد على القاعدة الشرعية الحقيقية لأنّ ذلك يعني بالضرورة اعترافنا بأنّ سكّان المناطق المحرّرة فئة مرتدة كافرة يجوز اغتنام ممتلكاتها بالقوة.

التترس:

بالتّأكيد لم يأخذ العوام في الشّمال السوري المعنى المتداول لكلمة “ترس” من الفقه الإسلامي، وربّما حين أشاروا بها إلى الشخص “السيء السمعة” لم يكونوا على علم بمعناها كما جاء عند ابن تيمية وغيره من علماء المسلمين. واللفظ لغة يعني ما يوقى به، أي يُتخذ كحماية والأصل ما يحتمى به من السلاح، يقال: تترّس فلان أيّ توقى بالتُّرس. ثمّ اتُخذ البشر كدريئة بدل التُّرس، واستخدموا في الحروب لصدّ المهاجمين، وقد اختلف الفقهاء في الأمر، فمنعه مالك حين سئل عن إحراق سفن للعدو فيها أسرى من المسلمين. ومنعه الشافعي بقوله: “دم المسلم لا يباح بالخوف إلا بدليل صورة الإكراه، وقال أحمد ابن حنبل: “وإن قالوا ارحلوا عنا وإلا قتلنا أسراكم، فليرحلوا”. وجاء من بعده مَن أباحه. أمّا “أبو حنيفة” فأجازه وكذلك فعل الشافعية وأخذ به العراقيون، وعلى خطاهم سار صدام حسين حين اتّخذ الأمريكان تروساً في مطار بغداد إلا أنّ وقوف العالم كلّه ضدّه جعله يتراجع. لكن أسوأ صورة للتترس ظهرت في الشّمال السوري المحرّر!

التترّس في المناطق المحرّرة:

يتجاوز التترّس في المناطق السّورية المحرّرة ما قبله فهو لا يسير على هدي الفقهاء والسّنة والقرآن بل على خطى المحدثين من جهاديي العولمة أمثال بن لادن، فقد أباح المسلّحون الهجوم على أماكن مدنية بالمفخخات من أجل شخص أو اثنين يريدون تصفيتهم وإن ذهب الكثير من الضحايا، وهذا ما فعله أتباع بن لادن في التفجيرات التي قاموا بها في الأماكن العامة غير مباليين بأرواح المدنيين لاستنادهم _كما يعتقدون_ إلى قاعدة فقهية تبيح قتل المسلم إن اقتضت الضرورة.

والاستناد إلى “الضرورة، والمصلحة” هو ما تفعله القوات الروسية والأمريكية وكلّ قوى الاحتلال إلى جانب النظام السوري منذ سنوات بحجة مكافحة الإرهاب وقتال تنظيم الدولة ، فكلّ عملية قصف يُستهدف فيها شخص _قد ينجو منها_ يقتل المئات من النساء والأطفال والشّيوخ الأبرياء لوجود هؤلاء في المناطق السّكنية. ولعل مدينتي الموصل والرقة خير مثال على إبادة المدنيين بحجة (تترّس) الإرهابيين بهما.

لعلّهم يتفكّرون:

جاء في الحديث الشريف “لَزَوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق”. إذن الأصل في الأمر التّحريم، وما أجيز كان لضرورة الحرب، والحرب تقوم بين جيشين أحدهما مسلم والآخر كافر وهو جيش العدو، لكن ما يحدث في الواقع السوري أمر مختلف تماماً.  

ومن فقه الجهاد نفسه لن يكون أمام الناس في المناطق المحرّرة سوى طريق واحد سيسلكونه عاجلاً أم آجلاً وهو “جهاد الدفع” لمواجهة هؤلاء الجهاديين المحتلين بحجة “جهاد الطلب”. فكما كُفِّروا عليهم أن يُكَفِّروا، والجراح قصاص! 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه