الشعوب أول من ينسى

ربما لم يأت الاستخدام أكثر دقة على لسان العربي من قوله ( الشعوب والحكام العرب ) . في إشارة دائمة وصحيحة بأن الفصل بين الاثنين أفرزته حوادث التاريخ الحديث منذ تأسيس الدول العربية بوصفها دولا ضمن منظومة العالم الجديد ما بعد العصبة والمنظمة الدولية أي بعد الحربين العالميتين . ولا نعتقد تغييرا قريبا سيحصل ضمن هذا الوصف . لسببين اساسيين .

الاول متعلق بالطبيعة الوظيفية التي بنيت عليها هذه الانظمة . والثاني متعلق بمحدودية أثر الشعوب على التغيير الحقيقي بسبب فقدان منهجية التفكير المؤدي الى التغيير .

ذهنية القبيلة والدين والطائفة والمنطقة مازالت تنمو وتكبر وتتمدد متخطية كل الحسابات العقلية والمنطقية في بناء الدول والحواضر. والأمر لا يقف عند شعب عربي بذاته. هي صبغة عربية بامتياز والحديث يشبه فكرة قائلهم وعلى عكس مراده (بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد.. ومن نجد الى يمن الى مصر فتطوان ) . هي هكذا لأن البناء المعقود والمؤسس على الفكرة الخطأ استهدف العقل والمنطق. ذلك ما يؤسس لزمن مستقبلي ممتد في عوالم من التخلف والجهل.

يمكنك أن تحكم على جودة فكر الشعوب من خلال جودة أحكامها على قضية من قضايا الرأي العام. والرأي العام عموما محكوم بقواعد علمية . وهناك فرق كبير بين الرأي العام حول قضية مصيرية من مصائر الأمم وبين فكرة الغوغاء والرأي السائب المتروك على عواهنه.

كنت مشاركا بالرأي إعلاميا ومراقبا له في قضية شغلت الرأي العام العالمي وأعتقد أن لاخلاف على قضية اختطاف واغتيال وتمزيق وإذابة جثمان الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول.

وقد شغلني في هذه القضيه الجانب القانوني ، ذلك الاختصاص العلمي الذي طالما حافظت عليه عناية ومتابعة بجانب اختصاصي في مجال الإعلام . ولأن المعضلات القانونية تأتي في مواسمها محكومة بقواعد علمها ، فيما أضحى الإعلام ضحية ونهبا مشاعا في كل المواسم بعد أن اختلطت على الكثيرين قواعده حتى الحقت به زورا مقولة (  الإعلام مهنة من لا مهنة له ) .

حتى لا أبتعد كثيرا عن أصل الموضوع .

أتساءل !! هل الشعوب أول من ينسى ؟ أم هي إشكالية تفكير ؟ أم هو الواقع ؟

والسؤال الأهم ، كيف جاء حكم الشعوب العربية على قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي ؟ .

معطيات القضية وفكرة الجريمة

– رجل حددت له قنصلية بلاده موعدا لمراجعتها في قضية استحصال أوراق متعلقة بأحواله الشخصية على اعتبار أن السفارات والقنصليات وجدت لتسهيل معاملات رعايا بلدانها في الخارج وعلى أساس ذلك منح القانون الدولي لها الحصانة الدبلوماسية. ولم ترد في القانون والأعراف الدولية فقرة تنظم عملية قتل رعايا الدول وتقطيع أجسادهم وإذابتها كيميائيا داخل تلك السفارات والقنصليات .

– هنالك إشكالية قانونية وأخلاقية أن تمارس دولة بل نظام دولة بحجم المملكة العربية السعودية إنكار وقوع الجريمة على العالم إلا بعد ثمانية عشر يوما بالرغم من تكشف قرائن وأدلة الجريمة منذ اليوم الأول . ليأتي الاعتراف السعودي صادما للرأي العام العالمي بأن حادثة القتل جاءت بسبب مشاجرة .

– استمر التضليل والإنكار السعودي على أساس هذا الادعاء ومع زيادة وضوح الأدلة وتزايد ضغط الرأي العام الدولي وليس العربي طبعا ، ليأتي الاعتراف السعودي الثاني بأن ادعاءهم الأول كان كاذبا والاعتراف بأن قتل الصحفي كان مخططا له مسبقا . فأي نظام دولي يقبل التعامل مع هذه الأنظمة ؟ وأي حسن نية في العلاقات الدولية يمكن الحديث عنه ؟

– أزمة أخرى واجهت القضية ( الجريمة ) . وهي الإصرار على إنكار وتضليل العدالة والرأي العام مرة أخرى وتمثل ذلك في الإجابة عن سؤال !! أين الجثة ؟

هنا علينا أن نتصور فكرة الاستخفاف في الرد وكأن النظام السعودي خارج الجغرافية العالمية وخارج مفهوم الدولة . فجاء الرد رسميا بأن جثة خاشقجي سلمت لمتعاون تركي يعمل في القنصلية السعودية في إسطنبول !!! .. حسنا فقد استبشر العالم المراقب لهذا المشهد قرب نهاية الحكاية . وربما استبشر أهله وذووه بالظفر بقطعة من جسد فقيدهم لاجراء مراسم دفن وصلاة ضمن شرعة لا ينكرها دين ولا مذهب خصوصا وأن العالم مازال يدور مع حسن الظن والنية تجاه نظام يحكم أهم بلد عربي اسلامي. وهنا جاءت الفاجعة الأخرى بالإنكار السعودي وتضليل العدالة مرة أخرى بأخفاء الطرف الدال الى استكمال وانجاز التحقيق .

وبعد آخر نتائج التحقيق الذي توصل الى أن المجرمين الدبلوماسيين والأمنيين السعوديين تمكنوا من إذابة جثة مواطنهم في بيت القنصل .

فصول هذه الجريمة وأوصافها لا تتسع لها كلمات مقال في صحيفة وحسبنا الخلاصة التالية . فقد جاءت جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي لتحمل الأوصاف الجرمية التالية .

– جريمة إعدام خارج القانون .

– جريمة تضليل للقضاء والعدالة .

– جريمة تضليل للرأي العام العالمي .

– جريمة انتهاك للحصانات الدولية .

– جريمة ضد الانسانية

– جريمة تهديد للسلم والأمن المجتمعي .

– جريمة انتهاك لسيادة دولة اخرى .

– جريمة إرهابية.

التقطيع والإذابة

وهنا يأتي حديثنا عن أن الشعوب أول من ينسى وأعتقد أنه ليس نسيانا بقدر ما هو أمر محكوم بثقافة تحتاج الى اعادة نظر. إذ لا مساغ للتبرير ولا معنى هنا لفكرة تأييد حاكم أو نظام ولا مجال لمناكفة طرف سياسي على طرف ولا مجال للأهواء فالإنسانية على المحك .

قضية خاشقجي جريمة جنائية دولية . السكوت عنها يعني القبول بمثيلاتها ضمن سؤال، هل تقبل ذلك على نفسك؟ وهل معاملة المعارض لك بالفكر تأتي بالقتل والتقطيع والإذابة؟

إذن يبقى الدفاع عن المجرمين جزءا من الجريمة في نظر القانون . وليس مقبولا الدفاع عن المجرمين ضمن هذه المعطيات . وخلاف ذلك اعتراف وتاييد لعالم تسوده الوحشية ويحكمه الإرهاب الدولي . وقد يكون حكم البعض بتأييد التضليل والتزييف والكذب والإنكار لحيثيات جريمة قتل الصحفي السعودي منسجما مع وجهة نظر بعض الأنظمة العربية التي رفضت مجرد استنكار هذه الجريمة . وكيف لها أن تستنكر جريمة هي تمارسها ضد شعوب وقعت أسيرة التضليل والتدليس .

نعتقد أن حكم الشعوب على القضايا المصيرية والمتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان بحاجة الى إعادة نظر بعد عقود من تجريف الوعي واستبداله بسياسات القمع والتجهيل التي جعلت حكم البعض على قضية الصحفي السعودي جمال خاشقجي لا تخرج عن حكم الأهواء الدائرة بين ( القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب والدين والجنرال والكارزما والزعيم … ) .

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه