الشخصي والروائي في “بنات حواء الثلاث”

شخصية الكاتبة في هذه الرواية كانت واضحة وجلية بحيث لا يمكنها التواري خلف شخصية البطلة.

بنات حواء الثلاث، رواية للكاتبة التركية ذائعة الصيت أليف شافاك. أخذت أليف شافاك شهرتها في العالم العربي بعد ترجمة روايتها “قواعد العشق الأربعون”. كانتشار النار في الهشيم، صعدت الرواية إلى أعلى مستوى قراءة ومبيعات.

ولم يكن أسلوب أليف شافاك في الرواية هو السبب فقط بل الموضوع الذي تناولته وهو حياة مولانا جلال الدين الرومي وعلاقته بشمس التبريزي، وهذا الموضوع بالذات سبب الإقبال الشديد على الرواية فقد تزامن مع “الموجة القرائية” التي اجتاحت صفوف القرّاء وغمرت مواقع التواصل الاجتماعي وهي العودة إلى أعمال المتصوفة “ابن عربي، وجلال الدين الرومي” وجاءت الرواية في التوقيت المناسب، ثمّ تلاها أعمال أخرى ترجمت إلى العربية آخرها “بنات حواء الثلاث” الصادرة عن دار الآداب والتي تقع في 599 صفحة من القطع الكبير.

لا يهم عدد الصفحات وضخامة العمل حين يكون ممتعاً. والحق أنّ أليف شافاك تختار من الحياة حولها ما يداعب مشاعر القارئ وتمرر من خلاله فكرها الخاص ورؤيتها للحياة.

تتناول الرواية حياة سيدة تعيش في مدينة اسطنبول اسمها “بيري” كانت في طريقها إلى حفل عشاء، اعترض طريقها متسول _عندما توقفت سيارتها بسبب الإشارة الضوئية_ وخطف حقيبة يدها. فتركت ابنتها الشابة في السيارة ولحقت المتسول لتستعيد حقيبتها، عندما وصلت إليه أفرغ الحقيبة من محتوياتها ووقعت صورة على الأرض، تظهر فيها ثلاث صبايا وأستاذهنّ في جامعة أوكسفورد. البطلة تستعيد ذكرياتها الجامعية بالتزامن مع الأحداث الحالية.

يمتد الزمن الحالي على مدار يوم تصف فيه إليف شافاك حادثة مطاردة المتسول، الوصول إلى مكان الدعوة، الأحاديث المتبادلة، هجوم مسلحين على الفيلا واقتحامها، النهاية التي حشرت فيها “بيري في خزانة الملابس وهي تتصل بصديقتها شيرين الإيرانية التي ظهرت معها في الصورة وتسأل عن أستاذها.

الزمن المستعاد تحكي فيه أليف حياة البطلة بين إسطنبول وعائلتها المشتتة بين أب لا يفارق الكأس وأم متدينة وأخ معتقل. وبين حياتها في أوكسفورد وعلاقتها بصديقتيها الإيرانية المنفلتة شيرين، والمصرية المحجبة منى والأستاذ الجهبذ الذي عشقته طالباته وهي منهنّ آزور.

الرواية مشوقة من حيث تصاعد الأحداث وحرارتها، تتعثر أحياناً بسبب الأفكار التي تدافع عنها “بيري_ أليف” والذي يبدو واضحاً للقارئ أنّ المتحدثة هنا هي الكاتبة التي أقحمت نفسها في السرد وفرضت على بطلتها تبني تلك الأفكار التي تتماشى مع البنية النفسية والاجتماعية لوالدها، وأبعدتها عن تفكير والدتها الغارقة في الغيبيات، المتشبثة بأهداب عادات “بالية” ومفاهيم “شعبية” عن الدين الإسلامي وسطوته على حياة تلك الفئة من البشر.
تعتقد أليف أنّ هؤلاء لا يدركون شيئاً مما يعيشونه وهم منساقون ومسيّرون بحبال وهمية ويعيشون حياتهم على الهامش؛ لأنّهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم بالتفكير ومن ثم النقد ومن ثمّ الاختيار لنمط الحياة التي يرغبون فيها؛ لذا انحازت البطلة إلى والدها وعاشت حياتها على النمط الذي اختارته بكامل وعيها وإرادتها.
هذا ما اعتقدته! لكنّ القارئ سيرى بوضوح أنّ البطلة وعلى الرغم من صراعها مع المجتمع من حولها وقتالها لترسيخ قيمها الأخلاقية وإثبات صحة أفكارها واستقلال شخصيتها كانت خلال ذلك مرهونة لشيء أقوى منها شيء لم تستطع التغلب عليه والفكاك منه على الرغم من كل محاولاتها، بقيت مرتهنة لذاك الحب الذي شعرت به نحو أستاذها والذي دفعها للانتقام منه بطريقة دنيئة فقضت على مستقبله وعادت إلى بلادها من دون أن تكمل دراستها لكنّها بقيت مُسيّرة بإحساس الإثم ومندفعة للعمل على نسيانه وتغطيته بدل مواجهة نفسها.
المواجهة التي قرّرت في نهاية الرواية أن تقترفها وهي محشورة في خزانة الملابس وشحن الموبايل يكاد ينتهي ومصيرها غامض وسط اقتحام الملثمين للفيلا.

بين عالمين:

أحاطت الرواية بعالم إسطنبول بعيداً عن سحرها الجغرافي والسياحي فقدمت صورة للبشر من عالمين متناقضين، القاع الغارق في الفقر والجريمة بأزقته الموبوءة والغامضة ومجتمع رجال الأعمال والمال بكلّ ترفه واستعلائه وانفصاله عمّا حوله.

لم تصف أليف نساء القاع في إسطنبول واكتفت بوصف طفلات متسولات، لكنّها وصفت نساء الطبقة المتوسطة والفقيرة من ذاكرتها عندما كانت طفلة، ووصفت نساء الطبقة الغنية التي تعيش بينهن. جاء في الصفحة 343:

“من حولها النساء ورعات وخائفات من الرب ومن الأزواج والطلاق والفقر والإرهاب والزحام والعار والجنون. بيوتهنّ نظيفة لا تشوبها شائبة، وعقولهنّ مدركة ما يتوقعنه من المستقبل في بواكير حيواتهنّ، استبدلن “فن استرضاء الأب” بفن استرضاء الزوج” واللواتي تزوجن منذ عهد بعيد ازدادت شجاعة أفكارهنّ ومفاهيمهنّ وجرأتها، ولكنّهنّ، بالرغم من ذلك، كنّ يعرفن متى لا يحقّ لهنّ تجاوز الخطّ الأحمر”.

على مدى حياتها بقيت بيري تعاني من الاضطراب والقلق بسبب نفسها هي، كآبتها وغموضها، استطاعت في أوكسفورد أن تسبّ وتشتم علناً وإن كانت مرّة واحدة حين انزعجت من الأستاذ آزور، وكانت تستغرب من نساء إسطنبول اللواتي يلجأن إلى البذاءة بتحمُّس ولا يعرن أهمية لقلة اللباقة (وهنّ أقلية) واللواتي لا يلجأن إلى مثل ذلك (وهنّ الأغلبية).

تقول أليف إنّ نساء الطبقة العليا لا يستنزلن اللعنات إلا إذا تكلمن باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، فالبذاءة التي لا يحلمن بالتّفوه بها بلغتهنّ الأم، يعمدن إلى التغني بها بلغة أوربية من دون إحساس بالذنب.

بيري شافاك:

شخصية الكاتبة في هذه الرواية كانت واضحة وجلية بحيث لا يمكنها التواري خلف شخصية البطلة فحين تتحدث بيري في الفلسفة أو السياسة أو تبدي رأياً تنتقد فيه مدينة إسطنبول يشعر القارئ أنّ المتحدثة هي أليف الكاتبة التي يعرف طلابها في الجامعة وقراؤها توجهاتها الفكرية.
في الرواية أكثر من رأي حول الدين الإسلامي وارتباطه بالإرهاب جاء على لسان شيرين ودافعت عنه منى وشعرت بيري أنّها بين أمّها وأبيها اللذين كانا يتشاجران بالطريقة نفسها حول الأمور ذاتها.
بيري التي ظلّت طيلة حياتها في المنطقة الوسطى، وجدت نفسها وهي محشورة داخل خزانة الملابس في مواجهة مع ماضيها ومع الرجل الذي عشقته، الموقف الغريب الذي وضعت الكاتبة فيه بطلتها وجعلتها تتصل بأستاذها وتطلب منه أن يستمع إليها وبدأت بقولها: “سأكون أنا الأستاذة هذه المرة، موافق؟” ووافق الأستاذ وبدأت بيري محاضرتها!

هنا تخرج بيري من الكادر الروائي تماماً لتحضر أليف الكاتبة والروائية والأستاذة الجامعية. لتقول لنا في الصفحتين الأخيرتين من الرواية محاضرة عن الغفران، والحب، والمعرفة.

والمحاضرة كانت عن ابن عربي وابن رشد.. الشرق والغرب.. فابن عربي كان ينشد البحث العقلاني والبصيرة الصوفية.

لم تكن تلك الأفكار الوحيدة التي طرحتها أليف شافاك في الرواية، فقد حفلت الرواية بالكثير من النقاشات والحوارات حول الأديان والإرهاب والفلسفة والوجود. لكن اختيار أليف أن تكون نهاية الرواية الدرامية وبطلتها خائفة ومضطربة ومختبئة من العصابة وهاتفها انتقل إلى اللون الأحمر بما ينبئ أنه لم يعد لديها شحن في البطارية ومع ذلك تبدأ بإلقاء محاضرة على أستاذها المقيم في بريطانيا! يرتفع فيها صوت أليف تدريجياً حتّى اختفت بيري تماماً وبقي صدى صوت الأستاذة الجامعية والروائية في مسمع القارئ.

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه