السيسي صانع الإرهاب

(1)

في الواقع أيضا، وليس في روايات أجاثا كريستي وحدها، نكتشف أن الضابط المكلف بمطاردة المتهم في جريمة القتل، قد يكون هو القاتل، وكنت في مقال سابق تعليقا على حادث مقتل الأقباط في المنيا، قد كتبت أنني لا أستطيع أن أجزم بأن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي “صانع للإرهاب”، لكنني أؤكد أنه “يتاجر فيه”.. بمعنى أنه يستثمر الحدث الذي يرتكبه غيره في تثبيت أركان حكمه وتشديد قبضته على السلطة، والمفاجأة أن نظرتي لهذا الموضوع تغيرت خلال الأيام القليلة الفائتة، وتأكدت بما لا يدع مجالا للشك أن السيسي واحد من أكبر صناع الإرهاب في العالم.

(2)

اتهام خطير كهذا، لا يمكن أن يصدر عني إلا إذا كانت لدي حجة قوية، خاصة وانني أعيش تحت سيطرة الآلة الأمنية لنظام البطش المجاني الذي يحمي السيسي به نظامه، ويكتم به كل صوت لا يشيد بمعجزاته، كما أن الأيام المقبلة تنبيء عن موجة قمع عنيفة، لا تحتاج إلى أسباب قانونية للتنكيل بأي معارض، فكيف يكون الحال وأنا أقدم لهم كل أركان التهمة التي يصطادوني بها؟!

(3)

قبل أن أعرض حجتي التي توضح دور السيسي ونظامه في «صناعة الإرهاب»، أقتطف فقرة من مقال قديم منشور في ديسمبر 2014 تحت عنوان (تهديد بالقتل – أجنحة الخنازير) قلت فيه: «هناك وصفة سهلة لتصنيع «إرهابي» من النوع العنيف جدا، وهي وصفة مضمونة تستطيع بها تحويل أي شخص، في أي زمان، وفي أي مكان، إلى إرهابي يهدر حياته وحياة الآخرين بمنتهى السهولة، لأن الحياة بما فيها ومن فيها تصبح في نظره مجرد أيام عبثية بلهاء لا معنى لها (…) فأنا مثلا فكرت قبل أيام أن أتحول إلى إرهابي على طريقة إبراهيم حمدي بطل «في بيتنا رجل»، فقد غلي الدم في عروقي عندما قرأت خبرا بعنوان: «النائب العام يسقط العقوية عن ممدوح اسماعيل صاحب العبارة «السلام 98» التي راح ضحيتها أكثر من ألف مصري، وقلت لنفسي سأكتب مقالا بعنوان: «بلاغ إلى النائب العام: أنا سأقتل ممدوح إسماعيل»!

(4)

لقد كتبت عن هذا الخاطر المختل في بدايات حكم السيسي، والمقصود من إعادة نشر المقتطف هو إثبات أنني فكرت (ولو نظريا) في استخدام العنف الذي يصل إلى القتل، كأسلوب للقصاص من فاسد أهدر حياة المصريين، ثم أفلت من القانون. وهذا التفكير يعني أن الرغبة في العدل وفي القصاص، قد تدفع إنسانا مسالما ليتحول إلى قاتل، أو بالمصطلح السياسي الشائع هذه الأيام: إلى «إرهابي».

هكذا يضغط القهر على المواطن الغلبان، وهكذا يفعل الظلم بنفسية الإنسان الذي افقتر إلى القصاص، وإلى العدالة وإلى قواعد الحفاظ على الحق، وقد تذكرت هذا الشعور، بعد أن راسلني عشرات الشباب، وكتب بعضهم رسالته علناً على مجموعة إليكترونية بعنوان «لن نفرط»، أنشأتها للدفاع عن مصرية جزيرتي تيران وصنافير، وكانت رسائل الشباب عبارة عن كلمات حماسية غاضبة تؤكد أن الطريق الوحيد أمامهم للدفاع عن أرضهم وحقوقهم، هو استخدام السلاح، وبتعبير أحدهم «التحول إلى فدائيين» للتصدي لكل من يفرط في أرض الوطن ولا يحترم استقلالية القضاء، ولا نصوص الدستور، ولا مشاعر الشعب مصدر السلطات..

(5)

«فدائيين؟!»… يااااه، لسه الشباب فاكرين هذه الكلمة المنقرضة؟، لكن المخيف أن عودتها هذه المرة ليست ضد عدو خارجي يحتل الأرض، بل ضد عدو داخلي من نفس الجنسية، بل إنه الحاكم المنتخب بأغلبية كاسحة، وصاحب الوعد البراق بأن يجعل مصر «أد الدنيا»  وصاحب التعهد الحنون «تنقطع إيدينا لو اتمدت عليكم يا مصريين»، فلماذا يفكر شاب في التحول إلى فدائي (إرهابي يعني) ليواجه هذه السلطة الحانية؟

(6)

تأملت رسائل الشباب، وأدركت أن غباء النظام في سد كل المنافذ والمسارات، لا بد أن يؤدي إلى حالة من الاختناق والكبت، تؤدي بالضرورة إلى الغليان والانفجار، فالنظام جمع اصوات الإعلام كله في سلة واحدة تردد صوت الحاكم فقط، وحجب كل الأصوات الأخرى التي تنتقد أو تعارض.. والنظام مسخ كل السلطات المتنوعة في الدولة وأخذها «ملك يمين» في جناح الجواري، يغمز لها فتركع وتلبي طائعة متلهفة.. والنظام جعل القانون مجرد أداة يستخدمها في التنكيل والجباية أيهما أراد.. والنظام منع التظاهر ومنع الكلام، وكاد أن يمنع الطعام نتيجة ارتفاع الأسعار وانهيار الأجور وقيمة العملة، والنظام أهمل الصحة لأننا «فقرا أوي»، وأهدر التعليم لأنه «هيعمل إيه في وطن ضايع؟!».. حتى الأرض والكرامة الوطنية صارت سلعة أراد «الحاكم بأمره»  أن يتصرف فيها دون الرجوع إلى الشعب صاحب الحق، وصاحب التراث الطويل من الأمثال والحكايات التي تشين من يفرط في أرضه.. لقد تم تأميم وتكميم مصر، ولا يوجد لدى المواطن الطبيعي أي مجال يمارس فيه حريته أو غريزته أو ملجأ يلجا إليه.. لا يوجد أمامه إلا القهر والصبر، فما هو السبيل أمام هؤلاء الشباب للدفاع عن أرض بلادهم، وعن كرامتتهم، وعن شعورهم بالإنسانية والتحقق؟.. لقد أغلق أمامهم النظام كل الطرق، ولم يترك لهم حتى فسحة «يتسلوا فيها» على طريقة مبارك، ولا صماما مقصودا للتنفيث، وبالتالي فإن هذا الكبت الغبي لابد وأن يؤدي إلى انفجار، لابد أن يرد البعض بعنف مضاد لهذا العنف (حسب قانون نيوتن)، وهذا يعني أن السيسي بسياساته الديكتاتورية الخرقاء يدفع أعدادا من المصريين المسالمين للسقوط من حافة الأمان الاجتماعي إلى هاوية الإرهاب، ثم يستخدم الأفعال الغاضبة لهؤلاء الشباب الضحايا، باعتبارها مبرراً لاستمرار قمعه للحريات، وتسخيره للقوانين، وتدعيم تبعيته لقوى خارجية تستخدم هي الأخرى «حيلة الإرهاب المصنوع» لفرض إرادتها على المنطقة، وإعادة تقسيمها بقوة السلاح، وبقوة الإرهاب الإعلامي والسياسي الذي يعطيها الحق في تكييف التهم وتوجيهها حسب الرغبة في تقسيم المنطقة، وإعادة توزيع خريطة القوة والتحالفات فيها بما يخدم الإرهابي الخفي، الذي يحتمي بقدراته السلطوية، وأدواته التي تسمح له بإبعاد شبهة الإرهاب عن نفسه، وتلفيق التهمة وإثباتها على ضحاياه.

(7)

فكرت في الضغوط التي يمارسها السيسي ضدي كمواطن أعزل، ووجدت من الأسباب ما يبرر لي الرد عليه بالإرهاب، لأنه حرمني من كل حقوقي، ومن كل أدواتي الطبيعية في الدفاع عن نفسي، وفي التعبير عن رأيي، ولولا بقية من عقل، ولولا إيماني الراسخ بقوة النضال السلمي، لنجح السيسي في تحويلي إلى إرهابي، كما صنع مع الآلاف غيري، بقراراته العمياء وسياساته الخرقاء.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه