السجون : جريمة المجتمع حين يفشل

محمد حلمي هلال*

هذا حال النخبة في مصر، أما العقول الحاكمة فقد كانت ولا تزال بطيئة الفهم، لا تدرك حقيقة أن تحويل المجتمع إلى سجن كبير هو فشل كامل.

أما المواطن المنهك الحائر، الباحث عن لقمة العيش اليوم في مصر فلا يدرك أن شهوة الدماء قد فاقت الحد، وأنه هو نفسة قد يقع فريسة لها ، في أي لحظة ، خصوصا إن كان هذا المواطن من غير اللائقين اجتماعيا ، أو من أبناء الزبالين ، في بلد تستدعي من تراثها العتيق مجتمع الرق، وعلاقات السادة والعبيد .

  لقد بتنا نعيش في مجتمع موتور، أحمق يفتقد البصر والبصيرة ، ألوف من المصريين مغيبون في السجون لا يعرف عنهم أحدا أي شيء ، وآخرون مغيبون بأوهام يروج لها مصاصو الدماء الجدد ، لتأبيد السلطة الاستبدادية الفاسدة ، وها هو الرئيس الذى لا تظهر صورته في المرآة كمصاصي الدماء، يعين الرجل الذى قال بالحرف الواحد “احنا هنا على أرض هذا الوطن أسياد و غيرنا هم العبيد” !! أكثر رجال القضاء كراهية للشعب المصري ، يعينه السيسى وزيرا للعدل في أكبر تحد لمشاعر الشعب المصري؟

كثيرون أكدوا لنا أنه يستحيل أن يعود نظام مبارك ، لكن الواقع يقول إن دراكولا يعود دائما. فبالرغم من أنه قد يُضعف أو يُهزم أو يُحرق فلا يتبقى منه سوى الرماد، الا إنه يعود مرة بل مرات، ذلك لأن شيئا ما جوهريا وأصيلا وحيا في بنيته يستمرُ حيا ، فباستطاعته العودة من الرماد، الأمر لا يحتاج أكثر من سفك ما يقدر عليه  من الدماء.  
هناك إذن عملية إسقاط واضحة يتم من خلالها إنكار المشاعر السلبية، والممارسات المدانة وإلقائها على شخص أو مجتمع آخر. واذا ما سرنا في هذا قُدما فان دراكولا، الذى أنهى شهر العسل مع الشعب في لمح البصر ، هذا الشخص الذي لا تنعكس صورته في المرآة، مثل دراكيولا ، الذى يعطى وجهه للمجتمع كي ينظر فيها الى ذاته متسائلا في بلاهة :  هل سيُفعلُ بي أنا ، ما يفعله اليوم في الآخرين ؟
لن أخرج عن الموضوع ولن أبتعد كثيراً ، فقط ألفت نظرك أن القدرة الفائقة لمصاص الدماء على التمويه، وعلى الحركة، واجتياز حاجزي الزمن، والمكان وبتعبير إضافي عدم خضوعه لقوانين الطبيعة الفيزيائية، هي انعكاس لخوف ولرغبة في نفس الوقت؛ الخوف من واقع  يتغير فى مصر كل ساعة ، والخوف ألا يؤدى القفز فوق حواجز الدستور والقانون أن يبقى مصاص الدماء شخصا آخر

 
كيف تحكم شبكات الهواء شعبا خائف؟.

في روايته حفلة التيس يحكى الروائي ماريو فارغاس يوسا ، ان التيس اشترى من أموال الدولة، حمالة للخصيتين، وشورتا، وتى شيرت، وحذاء لرياضة المشي وركوب الدراجة، أمران فقط كانا ينغصان عليه جولاته الرياضية الليلية، الأول هي النجوم التي ترصع السماء في الليل، حيث كان يراها بحكمته العميقة مجرد ثقوب بيضاء غبية تخدش روعة الظلام . والثاني هن العجائز الفقيرات والأمهات الساهرات خلف حوائط البيوت، يولولن، وينتحبن، بعضهن يبكين أبنائهن الذين ماتوا في عز الشباب، وأخريات يبكين بؤس الأحوال وتعاسة العيش ، ومرارة الحياة.

 كان يتساءل في استغراب : من أين تأتى تلك الكائنات القذرة، أو كيف تكون القذارة حية.
أ
حد الشعراء في بلاط التيس أراد أن يعالج كبده على نفقة الدولة فألف كتابا أسماه : التأملات الأخلاقية للتيس المهيب ، أو حكمة التيس رصد فيه ما سماه أسرار حكمة الزعيم الذى يقود سفينة البلاد، دون وهن أو ضعف رغم بلوغه التسعين، ورغم حمالة الخصيتين التي يرتديها أثناء المشى، واصفا إاياه بالحكيم العارف بكل شيء ، الفاهم  لكل الأسرار ، القادر على حل الألغاز المغلقة ، معتبراً أن التيس هو أنبل من أنجبت البشرية، المنعم على الوطن، الصابر على حكم شعب أحمق ، أنظر كيف رأى بحكمته العميقة أن النجوم مجرد ثقوب بيضاء غبية  تشوه جلال الظلام، وأن العجائز والأمهات اللواتى يستجرن بالله من الفقر والجوع، مجرد كائنات قذرة ؟

 حصل الشاعر على أمر بعلاجه فورأ على حساب الشعب (يقال عنها نفقة الدولة ) وأعطاه التيس من خزينة الدولة ، “شئ وشويات” ، وطلب من وزيره الاول اعتبار كتاب التأملات الاخلاقية للتيس المهيب ، او حكمة التيس ، كتاباً مقررا على تلاميذ المدارس الإعدادية.

ظل التيس بحكمته العميقة ماسكا بزمام البلاد ، فهو القابض والباسط ، والمسئول الأول عن الأخلاق، وعن السجون والمعتقلات وكل أحكام الإعدام ، وهو صاحب كل المزارع والنخيل والدواب والطيور المنزلية ، وكراتين البيض ، يحتكر تجارة الملح والسكر والشاي والنعناع والأرز والمكرونة ، يملك شركة الطيران الشراعي، وشركات النقل البحري، وصناعة الحديد والخشب وعربات النقل البرى والخيول، وشركات التأمين ومصانع تكرير النفط وامداد المنازل بالغاز الطبيعي، وصناعة الدخان والخمور والكبريت والملابس والدقيق والأحذية والملاهي الليلية، والخبز البلدي، والأهم أنه منح ابنه الكبير توكيل إدارة ما اسماه بحكمته العميقة ، شبكات الهواء، لم تكن شبكات الهواء تلك شركات للمحطات التلفزيونية او الإذاعية ، كانت شبكات من البلطجية والجباة يجمعون رسوما من كل المواطنين مقابل استنشاق الهواء العابر

احذر أنٌ تفٌوح رائحة قلُبك فَيعُلمَ الُجمَيعٌ أنُه يُحَترق
سئلت الكاتبة الأمريكية الراحلة سوزان سونتاج هل هناك من شيء محدد يجب على الكتاب أن يفعلوه؟ قالت : الكثير جدا، على الأقل ان يأخذوا بالهم من العالم .

سمعت أن أحد الشعراء قال في حشد من الناس : من أهان انسانا فقد أهانني

 في الحقيقة لا أدرى من الذى قال ذلك بالضبط هل هو والت وايتمان أم بابلو نيرودا أم برتولت بريخت ، وهل قبض عليهم وقتها أم لا ؟. يختلط على الأمر في الأيام الأخيرة من شدة التعب .على العموم ، كثيرون كتبوا ضد إهانة البشر للبشر، وهناك حكايات كثيرة تذكرك بالوطن حين  يقسو عليك، في الطفولة كانت غضبة أبى كاسحة لأنني قلت له سوف ألون عيني باللون الأزرق، صرخ في وجهى كما يقولون ، لكنه بعد أن هدأ قليلا ، ندانى : ياد (ولد) .. أنت ياد ، سألني كيف سأصبغ عيني باللون الأزرق ، قلت له سأنظر ناحية السماء متوسلا إلى الله لمدة خمسة عشرة يوماً متواصلة. 
 جبت الكلام ده منين ياد؟ قالها والدي. قلت : قرأته في كتاب ما ، من يومها لم تعد علاقتي به كما كانت . منتصف السبعينات قلت لضابط الأمن لو كنت عادلا بالفعل فعليك أن تحاسب كل من أهانني فى هذا البلد لأن من يهين إنسانا فقد أهان بابلو نيرودا، وبرتولت بريخت، ووالت وايتمان، وتشيكوف وديستوفيسكى، وطه حسين، وكل العظماء الذين يأخذون بالهم من هذا العالم القذر

لم تعد علاقتي بالوطن كما كانت، عرفت أن العدالة عينيها الواسعتين الكحيلتين ليستا مغمضتين، أحيانا تغمز بعينها لبعض الناس ولا تنظر أبدأ ناحية البعض الآخر، بخلاف هذا كانت حياتي فى مجملها عادية جدا، شخص مضحك مثل كل المصريين، يعجبني الفيلسوف الكبير ديكارت، وأردد دائما قولته الشهيرة أنا افكر اذن أنا طرطور ، لم أكن اعرف أن المسألة – أي مسالة – هي أبعد من ذلك بكثير. أن تكون طرطوراً ليس اختياراً ، هم يطرطرونك ، يقرطسونك ، يشففونك ويفعلونك، ويسرقونك ويبهدلونك، ويفقرونك ويحبسونك ويعذبونك ويفسدونك، سأقول لك شيئا لتفكر فيه، يعجبني في القطط والكلاب أنها مستقله تماماً ، حرة تماما ، تأكل حين تجوع وتنام حين يغلبها النوم وتحب ساعة أن يناديها الغرام ، لا يوجد للكلاب والقطط رؤساء أو ملوك او أمراء أو محققون أو أجهزة أمنية ولا توجد إهانات في عالم القطط والكلاب ولا يوجد كلب يعتقل كلباً آخر لمجرد أنه يقول رأيا ، خواطري هذه اكتبها لتمضية الوقت لا أكثر، فأنا في المستشفى ، قلبي موضوع فى الجبس ، وأمامي بضعة أيام أو شهور أو سنوات حتى أعود الى حالتي الطبيعية 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه