السبسي وهولاند في مسيرة الحابل والنابل

عبد الرزاق قيراط

بعد أيام من عمليّة باردو الارهابيّة، استجابت شخصيّات مرموقة لدعوة الحكومة التونسيّة، فحضرت للمشاركة في مسيرة حاشدة تعاطفا مع التونسيين ومساندة لهم في “حربهم” على الإرهاب. غير أنّ المسيرة لم تكن ناجحة على مستوى التنظيم كما ظهر من التغطية المباشرة التي نقلتها الفضائيات التونسيّة مصحوبة بتعاليق وتحاليل فوريّة اختلط فيها الحابل بالنابل. ويضرب ذلك المثل في اضطراب الأمور، فيقال: دار حابلُه على نابلهِ أي تداخل أوّله بآخره كما وقع في المسيرة المذكورة  حيث اختلط الزعماء بالحراس والمصوّرين والمتطفّلين، وظهر الموكب الرسميّ في شكل كتلة فيها من التدافع ما يثير المخاوف على حياة الرؤساء وخاصّة رئيسنا الضعيف الذي بلغ من العمر عتيّا…
لم يستطع الصحافيّون القيام بعملهم على الوجه الأكمل وبالطريقة المناسبة لنشاهد أطوار المسيرة والمشاركين فبها بوضوح، كما كان الحال في مسيرة باريس التي شارك فيها مئات الآلاف، وسار في مقدمّتهم زعماء من أربعين دولة حسب بروتوكول مضبوط يشبه في انضباط حركته ومساره ما نراه في الاستعراضات العسكريّة…، مسيرة شاهدها الملايين مباشرة وفي نشرات الأخبار بإعجاب وخشوع، فمثّلت نموذجا يقتدى من حيث دقّة تنظيمها وحسن سيرها. لكنّ السلطات التونسيّة لم تستفد من ذلك المنوال رغم أسبقيّته زمنيا، فكانت مسيرة تونس نسخة مشوّهة وتقليدا فاشلا، بعث برسائل سلبيّة تتعارض مع الأهداف التي رسمت لها. وكل ذلك مفهوم، فتونس لا تشبه باريس، والمقارنة بينهما لا تجوز، وعاش من عرف قدره.
في مسيرة تونس، استوى الحال بالنسبة إلى الجماهير التي واكبتها في الميدان أو التي تابعتها على التلفزيون. فاشرأبت  الأعناق، بسبب التدافع الشديد، وتمايلت يمنة ويسرة في محاولة يائسة لرؤية الزعماء الذين مشوا في اتجاه متحف باردو حيث قتل عشرون سائحا أجنبيّا في عمليّة إرهابيّة كشفت حجم  التقصير الأمنيّ الخطير. وبعد إقالة عدد من كبار الموظفين في وزارة الداخليّة، مثّلت مسيرة باردو أوّل امتحان للكوادر الأمنيّة الجديدة.. فمسؤوليّتها عن تأمين حياة الرؤساء وبقيّة الضيوف محفوفة بالصعوبات والمخاطر، ما ساهم في مضاعفة المخاوف التي ترجمتها حالة من الارتباك بدت على الأمنيين المحيطين بالموكب الرسمي، حتّى تأثّر الرئيس السبسي وجاشت نفسه فتصرّف برعونة مع المصوّرين الأجانب وخاطبهم بغلظة لا تليق..

وقد غاب ذلك المشهد الفريد من نوعه، فلم نشاهده في نشرة أخبار الثامنة على القناة الوطنيّة بعد أن أغلق المجال نهائيّا، في عهد السبسي وحزبه النداء، عن التعاطي مع ما يشوّه صورة الرئيس. على العكس من ذلك، تبذل الطواقم المشرفة على المرفق العموميّ ما بوسعها لترقيع تلك  الصورة المهترئة حتى لا تصدم الجمهور ولا تحمله على التفكير في مواطن الخلل بأعلى هرم السلطة.. وفي هذا السياق، لجأت نشرة أخبار الثامنة إلى تقنية الوصل والفصل فقطعت زلاّت السبسي من الكلمة التي ألقاها أمام ضيوفه، وقدّمتها على هيئة تليق بشخص يتمتّع بكامل مداركه العقليّة الأمر الذي يتعارض مع الواقع، ولكنّ أجمل الإعلام أكذبه كما يُقال عن الشعر. فالإعلاميّون كالشعراء  يقولون ما لا  يفعلون، خدمة للغاوين من السياسيّين.
الإعلام الفرنسيّ، لا يتبع ذلك النهج، فقرّرتُ الانتقال إلى نطاقه الفضائيّ للاطّلاع على ما سيقوله الفرنجة عن مسيرتنا المباركة، واخترتُ لغاية في نفسي أن أشاهد  البرنامج الإخباريّ الخفيف ‘الجريدة الصغيرة ‘ (Le petit journal)، الذي تعرضه  القناة الفرنسيّة كنال بلوس. فلن نجد أخبار السبسي إلاّ في  البرامج الساخرة التي تناسب الكثير من أقواله وأفعاله الصادمة.. وبالفعل ظهر السبسي في مشهد مسيء لهيبة منصبه وهيبة الدولة معا، فكان في  حالة هيجان وهو يخاطب المصوّرين المرافقين لهولاند بطريقة فجّة قائلا لهم بالفرنسيّة كلاما سوقيا هدم به كلّ المساعي المبذولة  لتلميع صورة البلاد أمام ضيوفها  وإصلاح ما أفستدته العمليّة الإرهابيّة..
في عهد الأنترنت والفضائيات، وفي عصر العولمة التي تشيع الخبر وتنشره فوريا وبألسنة متعددة، لا ينفع العمل الذي يقوم به الإعلام العموميّ حفاظا على هيبة الرئيس أو هيبة الدولة أو هيبة الخبر. ولعلّه بمثل ذلك التصرّف يسيء من حيث لا يدري إلى الرئيس أكثر مما يحسن إليه، ويثير التساؤل عن دوره لدى عموم التونسيين على نحو يبدّد ثقتهم بخطابه وبما سيقدّمه من برامج وتغطيات .. بل يمنحهم بتلك السقطات فرصة للتهكّم والتندّر على مواقع التواصل الاجتماعيّ حيث ينتعش من جديد شعار “إعلام العار”، احتجاجا على المغالطات التي يروّجها ذلك الإعلام  بطريقة تلوّث شرف المهنة وتهضم حقّ المواطن في الوصول إلى الخبر الصحيح. فلا مجال بعد الثورة لإعلام يخدم صورة الرئيس على  حساب صورة الوطن..
 والأمر لا يتعلّق فقط بإخفاء تلك الزلاّت البسيطة فحسب، وإنما يشمل بكلّ تأكيد مواطن الزلل الأخرى  على مستوى الأداء الحكوميّ، والتجاوزات الكثيرة التي تخرق الدستور والقوانين، وتعبث بمقدّرات البلاد وتبخس حقوق التونسيين في العيش الكريم

________________

*كاتب تونسي

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه