“الرئيس” من متحرش إلى مغتصب

قبل أيام وصلتني آلاف الرسائل التحذيرية تطالبني بعدم العودة إلى مصر، بعضهم خاطبني بغضب معتبراً أن التفكير في العودة لبلدي حماقة وانتحار.

 

 

 

(1)

قال عنه فرويد: إنه مكبوت ومقموع، وقال عنه سارتر وكامو: إنه مغترب وضائع وعدمي، وقال عنه ماركس: إنه مجرد ترس في آلة تجلب المال للأثرياء، وقال عنه السيسي: إنه فقير أوي وبياكل كتير. إنه الإنسان، الفرد الاجتماعي تحت نظارة العلم والأدب والاقتصاد والفلسفة والسياسة.

الإنسان في عصر السيسي تجاوز أزمات العذاب الوجودي في كل العصور السابقة، لأن السيسي (باعتباره طبيب الفلاسفة) جمع كل وصفات القمع والضياع والنفي والإفقار والعدمية والاستلاب النفسي، وسقاها لأفراد الشعب (عنوة أو بالخداع) في “كؤوس الفوبيا” التي جهر بها متحدياً مواثيق الإنسانية بقوته الغاشمة.

(2)

في مثل هذه الأيام كنا نستعيد الحديث عن حملة اعتقالات سبتمبر، التي عجلت بنهاية السادات بعد أن أغلق الحياة السياسية وقطف مئات الرؤوس الكبيرة وزج بخصومه إلى المعتقلات، فلم يجلس على الكرسي بعدها إلا شهرا واحدا، لكن غطرسة السادات في سبتمبر تبدو اليوم أقل بكثير مما كنا نراها قبل ذلك، فالسادات كان مجرد حاكم “تحرش” بمئات السياسيين بعد تمكين حكمه بالأمن المركزي ومشروعية الانتصار في حرب أكتوبر، والاعتماد على أموال المعونات التي بدأت واشنطن في إغوائه بها لتعويض خروجه من البيت العربي رداً على تحولات فض الصراع مع اسرائيل، وما تلاه من تبعية للإدارة الأمريكية.

أما اليوم فإن السيسي لم يكتف بالتحرش، إنه “يغتصب” مصر كلها (الدولة والشعب معا)، ثم يسعى لنزع اعتراف من الجميع بأن هذا الاغتصاب فضلٌ منه ومنة، فباركه البرلمان، وصمت عنه الجيش، وأعانته الشرطة، وأسبغ عليه القضاء مشروعية قانونية، وأشاد به الإعلام، والمدهش الذي ينفطر له القلب ضحكا ونواحاً هو تهليل الكثير من المغتَصبين تأييداً وترحيبا بحكم “الدكر”، الذي اغتصبهم واغتصب معهم الدستور والإعلام والقضاء والبرلمان والعِبَر، العقل والنظر، الأرض والمطر، السهل والحجر، النهر والشجر.

(3)

في “سبتمبر السادات” انتهى الموقف بعدة رصاصات، لكن الدرس الذي يجب أن نتذكره اليوم في “سبتمبر السيسي” هو أن الرصاص استطاع أن يقضي على الحاكم الفرد، لكنه لم يقض على بذرة تحرش الحاكم بالناس، فأنبتت البذرة شجرة شوك، فغابة مخيفة وعنيفة، صار التحرش اغتصاباً يسعى الحاكم لتقنينه كحق مقدس لا يصح لأحد معارضته، ومن هنا بدأ السيسي في تطبيق عقاب علني لكل من يخالف مشيئته، ليس بالقبض على مخالفيه ووضعهم في السجون وفقط، ولكن جعلهم عبرة والسعي للحط من كرامتهم الإنسانية، وكسر إرادتهم وتشويههم، فقد كان المعارض يدخل المعتقلات أيام السادات، وفي فترات تاريخية سابقة كصاحب قضية، ويتم تعذيبه سراً، لكن كانت له حياة، وكانت له وضعية معنوية أمام نفسه وأمام الناس، فكان كثيرون يكتبون الشعر ويمارسون حياة علمية وابداعية داخل السجون، لكن سجون السيسي اليوم تطفيء الحياة، تدمر الروح، تأكل صحة المعارض ومعنوياته، فلا يفكر إلا في جرعة الدواء، وتصبح البطولة أن يعيش يومه كسجين منفصل عن المجتمع الذي دخل بسببه السجن.

(4)

قبل أيام وصلتني آلاف الرسائل التحذيرية تطالبني بعدم العودة إلى مصر، بعضهم خاطبني بغضب معتبراً أن التفكير في العودة لبلدي حماقة وانتحار، وكنت في المقابل أنظر لهذه الرسائل باستنكار نفسي وعقلي، وأعتبرها دليلا على نجاح دعاية “الفوبيا” التي أطلقها السيسي فحققت ثمارها خوفاً، مرددا بيني وبين نفسي: ما الذي يمنع مواطنا من العودة لبلده طالما لم يرتكب جرماً وليس مطلوبا لاستدعاء في نيابة أو قضية في محكمة؟ وكانت بعض الرسائل التحذيرية التي تصل من أطراف قريبة من النظام مشفوعة بنصائح مغطاة بالود، تؤتي عندي أثراً عكسياً مدعوما بالعناد والتمسك بالعودة وقتما أقرر، حتى اتصل بي صديق كريم اثق في نزاهته، ممن يتولون مكانة محترمة في الدولة، كانت العلاقة بيننا في الفترة الأخيرة تقتصر على الاطمئنان المتبادل والتحية وعبارات التهنئة في المناسبات مع رسالة ثابتة: تحمل الغربة، لا تفكر في العودة الآن.

في هذه المرة، كان الصديق غاضباً جداً، وحكى لي عن تفاصيل يومية مما يراه، وكلها مما يشعر به المرء ولا يستطيع أن يعبر عن إحساسه به كتابةً، فكل ما يتبقى في النفس هو تلك القشعريرة الممزوجة بالغيظ والقهر، وذلك الغثيان الذي يؤذي الروح ويفرض نفسه على أيامك حتى تشعر أنك تريد أن تتقيأ العالم كله، أن تضحي بحريتك وأمانك وحياتك كلها لتتخلص من ذلك الإحساس الذي أفسد عليك ما تبقى من حياة لم تعد تشبه الحياة إلا في استمرار عدّاد الأيام.

(5)

في اتصال لاحق كان الصديق أكثر حكمة وإقناعاً، عاد إلى المنطق الهاديء الذي يتميز به، فحكى لي عن حالات بعينها (لن أذكر الاسماء ومشاهد التحطيم المعنوي) وقال لي حاسماً النقاش: عودتك حرية لك، ربما تفيدك فعلا وتخلصك من عبء يرهقك، وتحقق لك اتزاناً يريحك، أو أمثولة تعجبك ككاتب، لكنني أتكلم هذه المرة من زاوية اخرى: زاوية الثمن الذي سندفعه نحن، ربما تكون حساباتك واضحة لنفسك ولديك قبول واستعداد لدفع ثمن ما تفعله، لكنك لم تأخذ في الاعتبار الثمن الذي سيدفعه غيرك، انت سترهقنا وترهق أهلك وترهق أصدقائك، وترهق الكثير من المحامين والمتابعين ممن لا تعرفهم حتى، وهذا يؤثر على رعاية سجناء آخرين “إحنا مش عايزين سجناء تاني، إحنا تعبانين بما يكفي، فلا تزد من أعباء السجناء وأعباء من يبذلون الجهد في ظروف بالغة الصعوبة لرعايتهم، حتى ولو بالحد الأدنى، استنى كام شهر، الدنيا مش هتستمر كده، احتمال كبير تحصل تغيرات غير متوقعة بعد شهور قليلة”.

(6)

الرجل النبيل الذي يغامر بمنصبه وبنفسه ولا يريد أن يقطع هذه الصلة بيننا، أنهى الاتصال بعبارة ودودة مؤثرة: يا ريت أقدر أكون جنبك، لكن أنا سجين هنا وأنت سجين عندك، والسجناء لا يختارون بحريتهم كاملة، كل شيء في بلدنا غائب ومنقوص، فلا تتوهم الاكتمال حتى لا نحرق قضيتنا بالغضب ونحترق معها.

(7)

لا أعرف ماذا سأفعل في خطوتي التالية، فالضباب يملأ العيون، والغضب يسبق العقل، والقمع يؤدي إلى الانفجار، وأنا لا أريد أن أكون مقموعا ولا إرهابيا، لا أريد أن أكون رقماً في سجون السيسي، ولا أريد أن أكون سجينا بلا جدران.

السؤال يبدو شخصياً. لكنه سؤال حياتكم جميعاً.

سؤالنا الذي يحتاج إلى إجابة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه