الرئيس السوري خالد العظم : المليونير الأحمر

 

 

نبدأ بالقول بأن الرئيس السوري خالد العظم 1903- 1965 كان شخصية متعددة الأقنعة والقدرات لكنه لم يكن كالرئيس هاشم الأتاسي الذي اجتمع الكل عليه ولا كالرئيس شكري القوتلي الذي استطاع في وقت ما أن ينال قبول الكل، وإنما كان طرازا ثالثا هو الطراز الكفء الذي يحمل من كل اتجاه ما يدل على تشبعه به فهو غربي وشرقي، أمريكي وسوفييتي، أرستقراطي وشعبي، رأسمالي واشتراكي وهكذا.. وبالطبع فإن هذه الصفات المتناقضة لم تجتمع دوما في نفس الوقت وإنما كانت بمثابة وجوه لرؤيته أو مراحل في مسيرته.

ومع أن القارئ لهذا المقال سيُعاني من توالي الحوادث التاريخية فيه فإننا سنحاول أن نقدم هذه الحقائق بطريقة تستبقي الموضوع ليكون هو الهدف الأول في تصوير شخصية كانت من أبرز خمسة سياسيين سوريين في عهد سوريا الديموقراطي وهو عهد ثري إلى أبعد حد.

الأرستقراطي

كان الرئيس خالد العظم من أرفع مستويات الأرستقراطية السورية بل الدمشقية أيضا فقد كان والده محمد فوزي باشا العظم (المتوفى 1920) رئيس بلدية دمشق البارز في عصره فهو الذي أنجز مياهها ومستشفاها وسكتها الحديدية وقد كان عضوا في مجلس المبعوثان العثماني (البرلمان العثماني) 1916، وقبل ذلك فإنه كان وزير الشئون الدينية (الأوقاف) في الدولة العثمانية 1911.

الرئيس خالد العظم هو رئيس الجمهورية السورية الوحيد ورئيس الوزراء السوري الوحيد الذي كان والده هكذا نائبا ووزيرا عثمانيا. ومن الطريف أن خمسة من أفراد أسرته وصلوا إلى منصب والي في دمشق في العهد العثماني، آخرهم والده، وأشهرهم أسعد باشا الذي بنى قصر العائلة.

ولد الرئيس خالد العظم في 6 نوفمبر 1903 وسمٌته والدته باسم خالد بن الوليد وفاء لنذر نذرته بعد أن فقدت طفلين قبل بلوغهما الثالثة من عمرهما خلال ربع قرن من زواجها. وتلقى تعليما متميزا على أساتذة متخصٌصين وتخرج في جامعة دمشق 1923 وأصبح وهو شاب صغير وزيرا في حكومة دمشق الفيديرالية، وتولى منذ هذه المرحلة المبكرة إنشاء مصنع الإسمنت الحكومي (1930) وإنشاء غرفة صناعة دمشق (1935).

بعد إعلان الجمهورية (1932) انتخب نائبا في البرلمان وأصبح وزيرا للخارجية (1939إبريل) في وزارة الرئيس نصوح البخاري 1881- 1962.

في عهد حكومة فيشي الفرنسية بدأ تولى الرئيس خالد العظم للمناصب العليا في سوريا فتولى رئاسة الدولة بالنيابة ومعها رئاسة الوزارة أيضا ما بين 4 أبريل 1941 و21 سبتمبر 1941 وكان بهذا الحاكم (الرئيس) الحادي في تاريخ الدولة السورية الحديثة، وكان قد سبقه من الزعماء السوريين إلى تولي رئاسة الجمهورية: هاشم الأتاسي أما من الذين تولوها بصفة مؤقتة وإدارية مثله فقد سبقه الرؤساء صبري بركات وأحمد نامي وتاج الدين الحسني ومحمد على العابد وبهيج الخطيب. وكما ذكرنا فقد قد جمع رئاسة الوزراء مع رئاسة الجمهورية في هذه الفترة. وهو بهذا ثاني الساسة السوريين الكبار الذين عاشوا حتى عهد عبد الناصر وصولا إلى منصب رئيس الجمهورية (بعد الرئيس هاشم الأتاسي الذي وصل إلى هذا المنصب بالانتخاب 1936 وقبل الرئيس القوتلي (1943)

وفي هذه الفترة نجح الرئيس خالد العظم في تحرير السياسيين الذين كانت حكومة فيشي قد اعتقلتهم كما جنٌب سوريا نتائج انقلاب الرئيس رشيد عالي الكيلاني في العراق لكن قيادات فرنسا لم تحفظ له الجميل، فانتهت مدته في سبتمبر 1941 بعد خمسة أشهر وخلفه اثنان من لرؤساء فقد خلفه في رئاسة الجمهورية رئيسها السابق تاج الدين الحسني (1885 ـ 1943) وخلفه في رياسة الوزارة حسن الحكيم 1886-1982 

لما أجريت الانتخابات النزيهة في 1943 وفازت الكتلة الوطنية بزعامة هاشم الأتاسي بالأغلبية وأصبح شكري القوتلي رئيسا للجمهورية لأول مرة بترشيح من هاشم الأتاسي وتولى سعد الله الجابري رئاسة الوزارة، كان الرئيس خالد العظم قريبا من الحكومة فلما شكل سعد الله الجابري وزارته (الثالثة) عقب الاستقلال في 17 أبريل 1946 عُهد إليه بوزارة العدل ومنذ ذلك الحين أصبح باستثناءات قليلة موجودا على الدوام في الوزارة السورية.

في وزارة العدل استهدى الرئيس خالد العظم بما أنجزته حكومة الوفد المصري قبلها بعشر سنوات من إلغاء الامتيازات الأجنبية فأتم هذا الإنجاز.

معارضة تعديل الدستور

 ويذكر التاريخ للرئيس خالد العظم في تلك الفترة معارضته رغبة القوتلي في تعديل الدستور لمد فترة الرئاسة مثلما عارضها الزعيم سعد الله الجابري، وقد آثر العظم أن يعمل سفيرا لبلاده في فرنسا. لكن القوتلي كلفه بعد فترة صغيرة بتشكيل الوزارة خلفا لسعد الله الجابري فشكل وزارته الثانية في 16 ديسمبر 1946 لكنها لم تلبث في الحكم إلا لأقل من أسبوعين فاستقال وعاد إلى باريس سفيرا لسوريا. وفي تلك الفترة نجح الرئيس خالد العظم في إبرام صفقتي سلاح مع فرنسا ومع الاتحاد السوفييتي.

تعدٌل الدستور وفاز الرئيس شكري القوتلي بعد ذلك بالرئاسة الثانية في 1947 ، وفي 17 ديسمبر 1948 كلف الرئيس شكري القوتلي الرئيس خالد العظم بتشكيل الحكومة فشكل وزرائه الثالثة (التي واكبت وزارة إبراهيم عبد الهادي في مصر بعد اغتيال النقراشي ونهاية حرب فلسطين) خلفا لجميل مردم بك وفي عهد هذه الوزارة تمكن العظم من إنقاذ الليرة الفرنسية (وهو الذي كان قبل ذلك قد حصر إصدار النقد في مؤسسة إصدار النقد السوري بدلا من المصرف السوري) كما نجح في حفظ الأمن وتقليل المظاهرات لكنه بدأ يلقى المعارضة حينما دعا إلى أن تتخذ سوريا موقفا محدٌدا في الصراع الدولي، ولهذا سهل على معارضيه أن يتهموه بالتبعية للولايات المتحدة الأمريكية خصوصا مع عمله على إنجاز خط التابلاين، ومشروع الاتفاق المالي الفرنسي ، وإنجاز مشروع الهدنة ، وتأسيس غرفة الزراعة ، ومصنع النسيج،  والشروع في دراسة بناء سد يوسف لمضاعفة المساحة المزروعة.

ومن الغريب أنه في هذا الوقت نفسه كان الأمريكان يتحسبون منه ويصورنه صديقا للسوفييت، بل إن الصحافة المتصلة بالغرب كانت تُطلق عليه لقب المليونير الأحمر.

في آخر عهد حكومته قرر مجلس النواب الدعوة للمناقشة بخصوص الجيش، فرفض، لكن مجلس النواب لم يوافق على رفضه، وعقد جلسة يعتبر المؤرخون أنها أصبحت بمثابة المُبرٌر الذي أصبح متاحا في يد الرئيس حسني الزعيم ليقوم بانقلابه، وهو ما حدث في 30 مارس 1949. وإذن فقد كان الرئيس خالد العظم هو رئيس الوزراء الذي قام عليه الانقلاب الأول وقد قُبض عليه ونُقل مع رئيس الجمهورية الرئيس شكري القوتلي إلى سجن المزة العسكري وذهب إليهما فارس الخوري فحصل منهما بعد إقناع على استقالتيهما وبهذا جنبهما عنف العسكر وقد عاش كلاهما حتى توفيا في 1965 و1967 على حين أن قائد الانقلاب الأول لقي مصرعه بعد شهور قليلة.

لما قام سامي الحناوي بانقلابه الثاني أظهر الوجه الديموقراطي وكلف الرئيس هاشم الأتاسي أبو الجمهورية بتشكيل حكومة لإدارة الأزمة وهي الحكومة التي حكمت ما بين أغسطس 1949 و24 ديسمبر 1949. ولما أُجريت الانتخابات فاز الرئيس خالد العظم في دائرة دمشق فكان هذا مدعاة لتكليفه بتشكيل وزارته الرابعة التي تولت الحكم ما يبن 27 ديسمبر 1949 و4 يونيو 1950 أي لأكثر من خمسة شهور وقد شهدت هذه الوزارة ازدواجية السلطة ما بين الرئيسين الأتاسي والعظم من ناحية والرئيس الشيشكلي من ناحية أخرى.. وكانت أبرز نقاط الخلاف هي معارضة الجيش للوحدة مع العراق والأردن والاقتراب من التاج الهاشمي وقد صور موقف الجيش في تلك الفترة مدعوما من مصر والسعودية.

مع الطريقين

في أثناء هذه الوزارة قام الرئيس الشيشكلي والرئيس معروف الدواليبي الذي كان يشغل منصب وزير الاقتصاد بزيارة مصر ووُقٌعت اتفاقية لتدريب الجيش السوري في مصر.

 وقد تمكن العظم من أن يُرضي الطرفين أو أن يُظهر وكأنه مع الطريقين، لكن استقالة الحوراني زعيم الكتلة الجمهورية المُعبٌرة عن الجيش كانت إيذانا بانتهاء شهور العسل مع الشيشكلي وباستقالة العظم في يونيو 1950 عاد الحق لحزب الشعب وهو صاحب الحق في ان يُشكٌل الحكومة فتشكلت برئاسة ناظم القدسي (الذي هو خامس الساسة السوريين الذين عاشوا في عهد عبد الناصر وصولا إلى المنصبين الكبيرين: رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزارة) لكن ناظم القدسي استقال بعد تسعة شهور في 27 مارس 1951 ليخلفه الرئيس خالد العظم للمرة الثانية بوزارته الخامسة التي استمرت لأقل من خمسة شهور 27 مارس 1951 – 9 أغسطس 1951  . كانت هذه الحكومة صغيرة العدد 7 وزراء فقط وكانت تُعاني من معارضة شديدة من حزب الشعب، لكنها أنجزت بعض الإجراءات مثل إغلاق الحدود في وجه السلع اللبنانية لحماية السلع الوطنية وبهذا انتهت فعليا الوحدة الاقتصادية مع لبنان وقد فشل مرشح هذه الحكومة في الحصول على رئاسة مجلس النواب التي فاز بها معروف الدواليبي قطب حزب الشعب ، كما فشلت الحكومة في الحصول على موافقة البرلمان على زيادة الإنفاق العسكري وهكذا استقال العظم في 9 أغسطس، وحل محله حسن الحكيم ، وكان هذا تمهيدا لما تطور إليه الأمر من استيلاء الرئيس الشيشكلي بمُفرده على الحكم بدلا من الازدواجية التي ظلت موجودة منذ انقلب.

وبعد أن استقر الأمر للشيشكلي طلب من الرئيس خالد العظم تشكيل وزارة مدنية فرفض بل إن العظم قاطع الانتخابات التشريعية التي أُجريت عام 1953 وظل مُقاطعا للحياة السياسية حتى تخلى الشيشكلي عن السلطة.

في عام 1954 بعد ابتعاد الشيشكلي وعودة الديموقراطية أُجريت انتخابات تشريعية فترشح الرئيس خالد العظم وفاز فترأس الكتلة الديموقراطية في البرلمان، وكانت هذه الكتلة هي أكبر الكُتل. وكان الرئيس الأتاسي قد عاد للرئاسة (على اعتبار عودته استكمالا لمدته) فكلف الرئيس خالد العظم بتشكيل الوزارة لكنه لم يستطع إقناع حزبي الشعب والبعث، وهكذا كلف فارس الخوري بتشكيل الوزارة فشكلها (وكانت هي وزارته الثالثة) في نوفمبر 1954 وهي الوزارة التي شهدت تحول مصر عن الديموقراطية بعد اعتقال محمد نجيب والإخوان.. الخ

وفي فبراير 1955 عاد العظم إلى الوزارة لا ليترأسها ولكن ليكون وزيرا للخارجية ووزيرا للدفاع بالوكالة في وزارة الرئيس صبري العسلي الثانية (فبراير 1955 ـ سبتمبر 1955) وهي الوزارة التي حدث اغتيال عدنان المالكي في عهدها، وعقب الانتخابات الرئاسية في 1955 استقالت هذه الوزارة. ومن الجدير بالذكر أن الرئيس خالد العظم نفسه كان قد تنافس في هذه الانتخابات مع شكري القوتلي الذي فاز بالرئاسة من الدورة الثانية للاقتراع، بينما كان الرئيس لطفي الحفار قد تنازل لصالح الرئيس القوتلي.

وقد آثر الرئيس خالد العظم أن يتقاعد بعد خسارته الانتخابات الرئاسية لكنه عاد إلى تولي وزارة الدفاع في أثناء وزارة صبري العسلي الثالثة (نوفمبر 1956) وكانت هذه الوزارة ائتلافية ما بين الحزب الوطني والبعث والكتلة الديموقراطية التي كان ينتمي إليها بل كانت تسمى باسمه هو: كتلة الرئيس خالد العظم وتضم عددا من النواب المستقلين.

معارضا الوحدة مع مصر

وفي هذه الفترة كان الرئيس خالد العظم هو من أتمٌ اتفاقات التعاون مع الاتحاد السوفييتي بعد التوجه العربي إلى شراء الأسلحة من الكتلة الشرقية، وقد عقد مع هذه الكتلة صفقات اقتصادية بالإضافة إلى صفقات الأسلحة.

وعندما بدأ الحديث عن الوحدة مع مصر كان الرئيس خالد العظم معارضا للفكرة بشدة، وكان يُجاهر بأن الرئيس عبد الناصر سوف يُدمٌر الاقتصاد، والنظام الديموقراطي، لكن معارضته الصريحة والمنطقية قوبلت بالهجوم عليه بأنه إقطاعي عتيد وذلك على الرغم من أنه هو نفسه كان يُلقٌبُ قبل هذا بالمليونير الأحمر

اضطر الرئيس خالد العظم في أثناء عهد الوحدة أن يترك دولة الوحدة ويهاجر إلى منفى اختياري على نحو ما فعل عدد من الزعماء والساسة، وقد آثر العيش في لبنان فلما وقع الانفصال في سبتمبر 1961 عاد مباشرة إلى دمشق وشارك بحماس في صياغة وثيقة الانفصال، ثم حاول بعدها أن يخوض انتخابات رئاسة الجمهورية لكن الجيش رفض ترشيحه، وانتخب الرئيس ناظم القدسي رئيسا أما هو فعاد إلى ممارسة الحياة البرلمانية وانتخب نائبا عن دمشق.

ولما وقع انقلاب  28 مارس 1962 وتظاهر القائمون به أنهم مع الوحدة سُجن الرئيسان خالد العظم وناظم القدسي باعتبارهما من أعداء الوحدة لكن انقلاب 2 ابريل 1962 أطلق سراحهما ، بل أعيد القدسي للرئاسة ، وقد تحالف هذان الرئيسان (القدسي والعظم) مع الرئيس شكري القوتلي في العمل على تخليص سوريا من قرارات الرئيس عبد الناصر، فتولوا جميعا تخليص الجيش السوري من الناصريين، كما بدأوا يعالجون القرارات الاقتصادية التي اتخذها الرئيس عبد الناصر وبينما ثلاثتهم يؤدون هذه المهمة الوطنية وقع انقلاب البعث في 8 مارس 1963 فانتقل الرئيسان العظم والقدسي إلى لبنان.

عداوة عبد الناصر والبعث

عاش الرئيس خالد العظم في بيروت جامعا بين عداوة البعث له (أي النظام في سوريا) وعبد الناصر (أي النظام في مصر)، وقد رأى البعثيون أن يؤذوه فاستولوا على أملاكه في سوريا، لكنه واجه المحنة بثقة وإيمان، وبدأ ينشر مذكراته عام 1964 في جريدة النهار، وقد عهدت النهار إلى الأستاذ خليل كلاس بتدقيق المذكرات، بيد أن أستاذنا الزركلي صاحب الأعلام والمعروف بانتماءات سياسية معلنة، كتب في ترجمته له: إنه يقال إن مذكٌراته دخلها تحريف وتبديل.

توفي الرئيس خالد العظم في 1965 وكان قد أوصى أن يُدفن في بيروت قرب الإمام الأوزاعي وألا تُحمل جثته إلى دمشق حتى لا يحدث اضطراب سياسي بين أنصاره والحكومة ويسقط قتلى وجرحى. وهكذا قُدٌر لرئيس سوري كان أيضا رئيسا للوزراء أن يُدفن بعيدا عن وطنه لا لشيء إلا بسبب صراحته في إبداء آراء سياسية صائبة، وتعبيره عن رؤاه بطريقة واضحة.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه