الدراما .. القوة الناعمة التي غزت بها تركيا العالم!

اﻷمر الذي دفع إحدى أكبر شركات الإنتاج الأمريكية إلي شراء حقوق تصويرمسلسلات تركية لإنتاجها في نسخة أمريكية بعد أن تزايد عدد متابعي الدراما التركية في كل من أمريكا الجنوبية والوسطى

تحتل الأعمال الفنية بكافة أشكالها الدرامية والسينمائية والموسيقية اليوم مكانا بارزا في عقول المتلقين لها علي مستوي العالم، ما جعلها تتحول من مجرد نماذج ثقافية لتعارف الشعوب ، وعنصر من عناصر التسلية و الترفيه ، إلي أحد أهم وأبرز أدوات ما يعرف سياسيا بـ ” القوة الناعمة ” التي يتم توظيفها حاليا من جانب الدول ،  وترصد لها ميزانيات ضخمة بهدف تطويرها وتطويعها لتحقيق الأهداف التي يصعب تحقيقها من خلال العلاقات السياسية أو الطرق  الدبلوماسية ، مثل بسط نفوذها الثقافي وتأثيرها الاجتماعي خارج نطاق حدودها الجغرافية، أو زيادة حصتها من العائد السياحي، أو تحسين صورتها التاريخية ، وربما لخدمة أهداف سياسية واقتصادية غير معلنة

المركز الأول

وفي هذا الإطار تأتي أهمية البحث عن حجم ما حققته الدراما التركية من إنجازات علي صعيد الداخل التركي وأسباب ما حققته من نجاحات علي مستوي العالم ، بعد احتلالها المركز اﻷول أوربيا بوصول نسبة مشاهدي الأفلام التركية لأكثر من 60% من سكان أوربا بعد أن تم ترجمة 150 فيلما ومسلسلاً إلي عدة لغات أوربية شاهدها أكثر من 500 مليون مشاهد،

 واحتلالها المركز الثاني عالميا علي ﻻئحة الدول المنتجة للدراما المتلفزة بعد الولايات المتحدة اﻷمريكية ، إذ باعت تركيا عام 2011 أكثر من 10500 ساعة درامية ، تابعها حوالي 150 مليون مشاهد في 76 دولة ، محققة مكاسب مالية وصلت إلي 68 مليون دوﻻرا ، وهو اﻷمر الذي دفع إحدى أكبر شركات الإنتاج الأمريكية إلي شراء حقوق تصوير عدد من المسلسلات التركية لإنتاجها في نسخة أمريكية بعد أن تزايد عدد متابعي الدراما التركية في كل من أمريكا الجنوبية والوسطي خصوصا كوستاريكا ، البرازيل ، بيرو، اﻷكوادور، كولومبيا ، بوليفيا  واﻷروغواي .

هذا الانتشار غير المسبوق للدراما التركية ، والتي أصبحت تصدر إلي 105 دول حول العالم – تتصدرهم الدول العربية –  رفع من حجم عائداتها من 280 مليون دوﻻرا عام 2015 إلي 380مليون دوﻻرا العام الماضي،  بعد أن كان 10اﻵف دوﻻرا فقط عام 2004 .

 نجاحات الدراما التركية وما تدره من ملايين الدوﻻرات سنويا ، دفع الحكومة التركية إلي إدخال المجلس الأعلى للتلفاز والإذاعة كطرف مراقب للعمليات الإنتاجية لضمان زيادة عملية التسويق إلي الخارج خصوصا منطقة الشرق الأوسط ، إذ يبدي المجلس ملاحظاته علي السيناريو ، ويطالب بإلغاء كل مامن شأنه خدش الحياء أو انتهاك القيم اﻷخلاقية خصوصا إذا كان العمل يتحدث عن منطقة اﻷناضول المعروفة بالتزامها أخلاقيا ودينيا وتبنيها لعادات وتقاليد تشبه إلي حد بعيد تلك الموجودة في الدول العربية

الانتشار المذهل

تلك الإجراءات الرقابية وزيادة حجم الأرباح ، جعل العديد من الاقتصاديين اﻷتراك يتوقعون أن تدر هذه الصناعة الوليدة ( بدأت من عام 2005 ) مليار دوﻻرا نهاية العام الجاري، في ظل التدقيق الدائم لمراحل العملية الانتاجية، وزيادة حجم الأموال المستثمرة فيها بهدف إنتاج أعمال درامية تلفت نظر المشاهدين ، بينما أعلن رئيس مجلس الصادرات أن بلاده تسعي للوصول الى رقم  ملياري دوﻻر من تصدير المنتجات الثقافية ، وفي مقدمتها الدراما ، بحلول عام 2023 ، وهو ما يمكن تحقيقه بكل سهولة في ظل تزايد عدد المسلسلات المنتجة سنويا ، والتي تتراوح حاليا ما بين 90 و 115 مسلسلا .

الانتشار المذهل للدراما التركية عالميا جعلها النموذج الحي لمصطلح ” القوة الناعمة ” بعد أن نجحت بامتياز في التغلغل داخل دول ومجتمعات متباينة من أمريكا اللاتينية إلي أسيا الوسطي ودول البلقان إلي منطقة الشرق الأوسط وأوربا ، ما دفع مجلة فورين بوليسي اﻷمريكية إلي القول ” إن الدراما التركية أثبتت أن كسب قلوب من يعيشون في العالم الإسلامي ليست مهمة مستحيلة،  لكن مشكلة الوﻻيات المتحدة إنها لم تكتشف الطريق الصحيح للقيام بذلك”

وهي مقولة صحيحة بالفعل ، فتأثير الدراما التركية لم يتوقف علي الناحيتين الثقافية والاجتماعية ، وإنما تعداها إلي الصعيدين  السياسي والاقتصادي ، إذ ازداد اهتمام العرب والمسلمين عموما بكل ماله علاقة بتركيا ومتابعة أخبارها ، وأصبح رئيس جمهوريتها يحظى بدعم معظم الشعوب العربية ، الذين باتوا يعتبرونه بطل إسلاميا بسبب مواقفه في مساندة القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني ، وقدرته الفائقة علي الموازنة بين مواقفه تلك وعلاقات بلاده مع الكيان الصهيوني

ازدهار السياحة

أما علي الصعيد الاقتصادي ، فمكاسب الاقتصاد التركي لم تتوقف علي ما تدره الدراما سنويا من أرباح هائلة بل تعداها إلي ازدهار قطاع السياحة ، حيث أصبحت الدراما بما تقدمه من مناظر طبيعية وأماكن سياحية ومختلف انواع اﻷطعمة سفيرا ممتازا للسياحة التركية وباتت تركيا  قبلة السياح من مختلف دول العالم خصوصا العالم العربي ودول أسيا ، فيما يشهد سوق العقارات انتعاشا غير مسبوق بفضل الترويج الدرامي للمناطق السياحية وإبراز مدي تفوق العمارة التركية في تشييد القصور والفيلات والمباني السكنية بشكل دفع أثرياء العالم إلي اقتنائها  والاستثمار فيها ، بينما أصبح أبطال تلك المسلسلات عاملا مشتركا في كافة المهرجانات العالمية والمناسبات الفنية ، ونجوم لأكثر الاعلانات التجارية رواجا وفي الفيديو كليبات الغنائية

ويرجع كثير من النقاد نجاح الدراما التركية إلي عدة عوامل ربما يكون أبرزها جودة الإنتاج ، والاهتمام بجماليات الصورة ، والدقة في اختيار مواقع التصوير إلي جانب تنوع القصص التي تركز علي ثالوث الدراما المتمثل في المسلسلات العاطفية والرومانسية ( فاطمة – العشق الممنوع – نور ) والتاريخية ( حريم السلطان – أرطوغرل – قُسم ) واﻷكشن  ( وادي الذئاب ) إلي جانب الحبكة الدرامية والطرح الجريء لقضايا تتعلق بالحرية الشخصية وكسر التابوهات التي تكبلها من عادات وتقاليد ، جعل المشاهد متابعا دقيقا لها

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه