الخسة

(1)

يقول العرب: “إنه أمر صُرِمَ بِلَيلٍ” أي “أمر مكروه دُبِّر بِلَيل”، وأظنكم تعرفون المعنى، لذلك لن أقف عنده بالشرح، أريدكم أن تتخيلوا معي الشعور الصادم والفاجع الذي يصيب من يتعرضون لذلك الأمر الذي يتم تدبيره في الليل، ثم مفاجأة الناس به كطعنة غادرة.

(2)

هكذا يبدو لي قرار التفريط في جزيرتي تيران وصنافير، نموذجا لذلك الأمر الذي تم تدبيره في الخفاء بمنتهى الخسة والوضاعة، ثم فاجأنا “الحاكم الشريف” بعد انتهاء مفاوضات الظلام، بإعلان الموضوع بطريقة باردة أثناء زيارة العاهل السعودي للقاهرة في أبريل قبل الماضي، وهو الإعلان الشهير بتصريح “أمي قالت لي”. وبعد عام من الرفض الشعبي، تعمدت “سلطة الليل” أن تحيل الموضوع إلى البرلمان من جانب “شريف الحكومة” وليس من جانب “شريف الرئاسة”، وفي أوائل رمضان الماضي تسربت الأخبار عن عزم البرلمان مناقشة اتفاقية ترسيم الحدود التي تتضمن التنازل عن الجزيرتين لا ستغلال أجواء رمضان ودرجة الحرارة المرتفعة وانشغال البيوت  بامتحانات التلاميذ في نهاية العام الدراسي، وقبل أن ينتهي الشهر الكريم تم “المطلوب” بتعجل مريب من جانب الدولة التي يستهلك فيها المواطن نصف عمره في إجراءات إضافة اسمه في بطاقة تموين أو الحصول على تعويض بعد النصب عليه، أو مقتل ابنه في عبارة غارقة أو انقلاب قطار!

(3)

المضحك حد البكاء أن الرئيس الشريف الذي تعجل إعادة الحق لأصحابه (عملا بالوصية) لم يهتم يوما بحقوق المصريين ولم يظهر بخصوصها أي اهتمام لا في الداخل ولا في الخارج، فلا انتصر فخامته لمواطن مصري تعرض للظلم والسجن في الخارج، ولا  اقتص للشهداء الذين ضحوا بحياتهم من أجل ثورة تعطلت مسيرتها بعد أن أوصلته إلى كرسي الحكم، كما أنه لم يظهر اهتماما بحفظ حصة مصر التاريخية من مياه النيل (أليس هذا حقاً؟) ولا قدم إجابة لأم ريجيني عمن قتل ابنها كما لو كان مصريا! (أليس هذا حقاً؟) لكن الشريف لم يصبر حتى يؤهل شعبه لتقبل صدمة نزع قطعة من لحم الوطن، ولم يصبر لكي يترك للقضاء مجالا لحسم قضاياه المعلقة، وسارع بالتصديق على القرار “المسلوق” في برلمان تصادم مع سلطة القضاء علنا، لقد تجاهل الرئيس الشريف مشاعر المصريين في نهار وقفة عيد الفطر، وسرق فرحتهم بالعيد.

(4)

يحضرني الآن تصريح لشريف الرئاسة اعترف فيه أن شريف الحكومة (شريف اسماعيل) اقترح عليه في خريف العام الماضي أن يتم إصدار قرار رفع أسعار المحروقات في منتصف ليل الخميس، بحيث يكون الناس في أجازة يومي الجمعة والسبت، ويكون الزحام في الشوارع أقل، ما يضعف من فرصة أي احتجاج أو تظاهرات غاضبة، لكن الرئيس الشريف قال لوزيره الشريف: احنا نعمل اللي احنا عاوزينه في أي وقت وما تقلقش، ثم تحدث بطريقته العجيبة عن رفضه لما كان يحدث في “الدولة الخربانة” طوال 30 سنة، (رفعها بعد ذلك إلى 70 سنة) فقال إن من مساوئ الماضي البغيض، أن الأنظمة السابقة تعودت على تدبير أمور في الخفاء (تدبيرها بليل) لكنه رئيس شريف وواضح وما بيخافش لا من بره ولا من جوه، وهيعمل كل حاجة كده، وأكد على حكمته وصدق توقعاته، لأن شعبه الطيب المهاود الحنون لم يخرج في 11/ 11 الماضي، للاحتجاج بعد قرارات رفع الدعم الأولى، وبنفس طريقة “نعملها كده” خرج الحكيم الشفاف قبل أيام لينذر شعبه بأن موضوع تيران وصنافير خلص خلاص، متجاهلا حكم مجلس الدولة، وكأنه يعلم (من الكونترول) قرار رئيس المحكمة الدستورية الذي صدر في اليوم التالي، كعريضة مؤقتة بداعي العجلة، بلا جلسة لهيئة المحكمة، وبلا نقاش، في إجراء يهدد بانفجار شعبي واجتراء دستوري وقانوني يهدم شرعية الدولة، وليس شرعية النظام الحاكم وحده.

(5)

لا أجد مصطلحا سياسيا ينطبق على ما حدث في قضية تيران وصنافير، ولا على طريقة “التلفيق” التي تم تمريرها بها، فكل ما يسيطر على تفكيري الآن، وصف أخلاقي في كلمة واحدة هي: “الخسة”، لهذا قفزت إلى ذهني أبيات متفرقة من قصيدة أمل دنقل “لا تصالح” عن خسة القاتل الذي لم يواجه خصمه بشرف، بل اختبأ.. وخان.. وغدر:

“لم يصح قاتلي بي: “انتبه” / كان يمشي معي/ ثم صافحني / ثم سار قليلاً/ ولكنه في الغصون اختبأ!/ فجأةً: ثقبتني قشعريرة بين ضلعين / واهتزَّ قلبي – كفقاعة- وانفثأ!

وتحاملتُ، حتى احتملت على ساعديَّ/ فرأيتُ: ابن عمي الزنيم/ واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم/ لم يكن في يدي حربةٌ أو سلاح قديم/ لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ”

(6)

بحثت في القاموس عن معنى الخسة فوجدت مرادفات كثيرة، وجب تسجيلها حتى لا تستهينوا بهذه الكلمة الصغيرة، فهي تعني: انحطاط  حَقارَة ، خُضُوع، خُنُوع, دَناءَة، ذُلّ، سَفَالَة، رَذَالَة، وضاعَة، لُؤْم، مَهانَة، نَذالَة، هَوَان، أما عكسها فهو: العِفَّةَ، الرِّفْعَة، النَّزاهَة، الإباء، التَّسامي، الشرف، الكرامة، المجد، عزة النفس، وأظنها معاني ملهمة لفهم صفات الخسيس ومعنى الخسة، وأعود إلى أبيات أمل دنق التي ظللت أرددها مع آلام الصداع العنيف وأعراض ضغط الدم التي استولت على كياني:

“كيف تنظر في يد من صافحوك/ فلا تبصر الدم في كل كف؟

إن سهمًا أتاني من الخلف / سوف يجيئك من ألف خلف..

كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة/ والذي اغتالني: ليس ربًا/ ليقتلني بمشيئته

ليس أنبل مني/  ليقتلني بسكينته/ ليس أمهر مني/  ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة/ (…) الذي اغتالني مَحضُ لصْ/ سرق الأرض من بين عينيَّ/ والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!”

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه