الحوائط اكثر رحمة من أنظمة القمع

للأسوار والحوائط علاقة مباشرة بالإنسان  ،لا أدرى ما السبب إلا أن كل المؤشرات تؤكد انها  ملجأ ومتكأ للإنسان يستند عليها ويرمى عليها همومة و أحيانا “يفك عليها زنقاته ” العضوية والسياسية والاجتماعية .

وهناك حوائط ارتبطت  بمدلولات سياسية  وعقائدية ففى عام  1887 قام أدموند دي روتشيلد، من يهود فرنسا، بمحاولة فاشلة لشراء حائط البراق  فى فلسطين وجعله ممتلكات يهودية نكاية فى المسلمين الذى يمثل الحائط لهم أهمية دينية حيث ربط الرسول صلى الله عليه وسلم البراق فى هذا حائط أثناء رحلته المقدسة ( الإسراء والمعراج )  .

أما حائط برلين فقد كان شاهدا على حالة الإستقطاب السياسي التى شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية وفصل بين شرق المانيا وغربها وحولهما الى دولتين منفصلتين وكان هذا الحائط بطلاً لعديد من المشاهد الإنسانية ، وتحولت أحجاره الى مدونات سياسية وإنسانية وفنية .

هذا غير سور الصين العظيم الذى يعتبر اكبر مشروع دفاعى فى تاريخ البشرية .

حائط السيسي

ولم يكن حائط السيسى الذى ظهر فى مسلسل ” لاتطفئ الشمس ” هو الحائط الوحيد الذى أثار الجدل واللغط ولم يكن أيضا الحائط الوحيد الذى تحول الى وسيلة لعرض الأراء المكبوتة والتى لم تجد مكانا يستوعبها إلا الحوائط .

والحوائط فى مصر يا سادة هى الملاذ لكل من لا يستطيع ممارسه حقه أو ممارسة حياته وحقوقه الاجتماعية والسياسية وربما العضوية بشكل طبيعى ، الحوائط فى مصر مظلة للفقراء الذى لا يجدون مظلة تحميهم ، وزاوية للمشردين يركنون تحتها لحمايتهم من الأمطار والعواصف ، ويعبرون عن انفسهم بالكتابة عليها عندما يحرمون من حق إبداء الرأى والتعبير .

بعد نكبة 1948 وهزيمة الجيوش العربية فى فلسطين وفضيحة الأسلحة الفاسدة فى مصر والتى تورط فيها رجال القصر الملكى وربما الملك نفسه ، كان لدى المصريين الكثير يريدون قوله ، وكانت هناك حالة إنفعال وحزن وغضب يريد الشعب أن يعبروا عنها ، وكانت قضية الأسلحة الفاسدة قد فُجرت إعلاميا  القضية في أوائل عام 1950 بعد أن كتب  ديوان المحاسبة تقريرا تضمن مخالفات مالية جسيمة شابت صفقات أسلحة للجيش تمت في عامي 1948 و 1949.

وكالعادة ومثلما يحدث فى زمننا بدلاً من أن تنفعل الحكومة وتهب للتحقيق فى هذه الجريمة ثأراً للشهداء الذين اريقت دماءهم بسبب هذه الجريمة.. وردا على جريمة الخيانة التى ادت الى الهزيمة أمام الصهاينة حاولت الحكومة برئاسة مصطفي النحاس الضغط علي رئيس الديوان لحذف ما يتعلق بهذه المخالفات من التقرير.

 رفض رئيس ديوان المحاسبات حذف المخالفات من التقرير وقدم استقالته ، فقام النائب البرلماني مصطفي مرعي بتقديم  استجواب للحكومة عن أسباب الاستقالة و فضح في جلسة مجلس الشعب يوم 29 مايو 1950 للمجلس كل الحقائق عن هذه  المخالفات الجسيمة المتعلقة بصفقة هذه الأسلحة الفاسدة والتى ادت الى كارثة 1948 .

دور احسان عبد القدوس

وهنا ظهر دور الصحافة الوطنية والصحفيين الأشراف المعبرين عن ضمير الأمة من خلال حملة كبيرة تزعمها الصحفى إحسان عبد القدوس فى مجلة روز اليوسف فضح فيها كل ما يتعلق بهذه الجريمة ودور القصر وحاشية الملك فيها .

و نجحت روزليوسف في تكوين ضغط شعبي كبير اضطر معه وزير الحربية مصطفي نصرت في ذلك الوقت  الى أن يقدم بلاغا للنائب العام لفتح تحقيق فيما نشر بصحيفة روزليوسف عدد رقم 149 بتاريخ 20 يونيو 1950م عن صفقات الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين.

 .. وتصادف فى هذ الفترة أن كانت الصحافة قد بدأت حملة عن فضائح أخلاقية لبعض أفراد العائلة الملكية فقامت حكومة الوفد برئاسة النحاس بإستخدام كل الوسائل الرسمية وغير الرسمية لمنع وصول المعلومات عن هذه الصفقة وعن فضائح الأسرة الحاكمة وكان منها منع النشر والمصادرات والإعتقالات .

ولأن الشعب المصرى لا يخضع بسهولة وربما لا يخضع أبدا لأى ضغوط تمنعه من التعبير عن نفسه والدفاع عن حقوقه استبدل أوراق الصحف بالحوائط ، ووجه أكبر ضربة للملك فاروق وحكومته عندما استطاع عدد من الشباب الوصول لحائط قصر الملك فى عابدين والكتابة عليه عبارات مسئية جدا للعائلة المالكة ، وبالطبع فإن سقف ما يكتب على الحوائط  أعلى بكثير من سقف ما يكتب على أوراق الصحف وأقل التزاما بالمعايير الأخلاقية .

و للأسف استخدمت الحكومة الوفدية برئاسة مصطفي النحاس و الملك فاروق كل الوسائل المشروعة و غير المشروعة لإسكات أصوات المعارضة التي أرادت فتح ملفات القضية للوصول إلي المتورطين فيها.

أثناء الحرب العالمية الثالثة استطاع هتلر بواسطة وزير إعلامه ” جوبلز” أن يقضى على وسائل التعبير المحرضة على المقاومة والجهاد فى الدول التى أحتلها ، ووجدت حركة المقاومة فى هذه البلدان المنكوبة بالإحتلال النازى البديل فى الحوائط وكانت نشرات المقاومة وكلماتها وأخبار العمليات ضد المحتل تكتب على حوائط المبانى التى دمرها النازى وتعلق عليها كل المنشورات الخاصة بتشكيلات المقاومة

فى الإنتخابات البرلمانية المصرية يعتبر بند الكتابة على الحوائط هو أهم بند دعائى سواء كان من خلال الكتابة المباشرة عليه او من خلال تعليق الملصقات

إذاً الحوائط فى العالم عامة وفى مصر خاصة هى وسيلة التعبير الشعبية البديلة لقمع السلطة وكبت الحريات ، ورغم أنها وسيلة بديلة إلا أن حدود سقف التعبير فيها يتجاوز بمراحل أسقف التعبير فى كل الوسائل الإعلامية ، فالكتابة على الحوائط تحمل داخلها كل الرغبات المكبوتة والطاقة التواقة للتعبير لهذا فهى مندفعة بفعل الكبت لا تحمل حدودا أخلاقية ولا قواعد مهنية ولا وظيفية ولا إعتبارات شخصية تمنعها من كتابة ما يعبر عنها بأى لغة أو ألفاظ ، وهذا هو الثمن الذى يدفعة سجانون الحريات .

خائن

فى مسلسل ” لا تطفئ الشمس ” ظهرت عبارة فى مشهد مكتوب عليه عبارة ( CC خائن ) وهو ما أثار حفيظة المتنطعين والصائدين لمناسبات التسلق فقام محامى استمد شهرته من هذه الالاعيب القانونية الرخيصة لرفع قضية يتهم فيها المسئولين عن المسلسل بالاساءة لرئيس الجمهورية .

لا أعلم  هل الاتهام موجهة للعمل الفنى الذى ينقل مشاهد واقعية تعبر عن المجتمع ؟، ام موجه لمن كتب هذه الكلمات على الحائط والذى بالطبع اختزله المحامى فى جماعة الاخوان وهى الآن ” الحيطة المايلة ” التى يستسهل المتنطعون الارتكان عليها

وقامت الشركة المنتجة بسحب العمل من موقع يوتيوب وحذف المشهد الذى تظهر به العبارة وتكلفت مبالغ طائلة من أجل هذا !

فى المبتدأ كلمة الخيانة ليست سب وانما هى وصف يجب أن يرتكن على مبررات وربما نعتبره سبه اذا ما أطلق على شخص دون بيان محتواه وأسبابه ، فإذا تجاهلنا كل الأحوال المتردية والمنهارة التى تحيط بالأمة وتوقفنا فقط عند أزمة التفريط فى الأرض من خلال أزمة تيران وصنافير ومن خلال الأداء الهزلى للنظام برئاسة ” CC  ” وتحدى الإرادة الشعبية والقوانين والمنطق والتفريط فى أمانة الحكم والقسم الرئاسي بالحفاظ على استقلال البلاد وعدم التفريط فى أراضيها ، تصبح عبارة حائط مسلسل لا تطفئ الشمس صفة وتعبير دقيق عن واقع أليم وليست عبارة جوفاء خالية من المعنى ، ولطالما منعتم الناس من التعبير عنها نفسها فى وسائل الاعلام فالحوائط أرحم بهم منكم وفيها متسع لكل الأراء بلا حدود ولا أسقف ولاتوازنات .. حق التعبير لا يمكن سلبه .

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه