الحمار والدّستور

في مسرحية “غربة” التي ألّفها الشّاعر المرحوم محمّد الماغوط موقفٌ درامي كثيرًا ما أضحك الشّعب السّوري وما زال في ذاكرته إلى الآن.. يرد أغا الضيعة “القرية” على المعلم الذي يريد أن يفتح مدرسة ليقضي على الجهل

حين يسأله:  “مين حَكّمَك على ها المساكين؟”.. فيقول: “الدستور”.. فيسأله المعلّم: “أيّا دستور؟ يرد الأغا: “دستور الضيعة”. ويطلب من الشّرطي أن يريه الدستور.. يتساءل الشرطي:”وين الدستور؟”.  يجيب الشرطي الثاني: “بالخرج”. الأول يسأل:”وين الخرج؟”. الثاني:”على الحمار”. الأوّل:”وين الحمار؟”. الثاني: “موقوف”. الأوّل: “شو عمل؟”. الثاني:”أكل الدستور”.
يلتفت الأغا إلى الشرطي قائلاً: “قلتْ لي الحمار أكل الدستور؟ وكيف انهضم معه هيك دستور؟ وكيف بدّي فهّم الحمار الثاني أنّ هناك شرعية ودستور؟”
إذن، الدستور هو القانون الفصل الذي يُرسّخ قواعد التّعامل بين الحكومة والشّعب ويخضع كلاهما لحكمه! ولا يستطيع الحاكم ولا الشّعب أن يتجاوزا الدستور!
يلخص هذا الموقف الدرامي مأساة الشّعب السّوري مع دساتيره التي وضعت له منذ فجر الاستقلال عن الدولة العثمانية حتّى الآن ، فمنذ عام 1920 حتّى اللحظة عاشت سوريا مع خمسة دساتير: اثنان منها فقط تمّ وضعهما عبر جمعية تأسيسية منتخبة ( 1930 ـ 1950 )، وأما ما تبقى فهي مجموعة دساتير كانت تُفصّل حسب مقاس الأغا (الحاكم المستبد). أمّا أسوأ الدساتير فهو الدستور الذي فصّله الحاكم السابق ( حافظ الأسد ) سنة 1973 وقد وضع نفسه في هذا الدستور موضع المخرج الذي يمسك بكلّ الخيوط في مسرح الدمى ، فإليه تنتهي خيوط السّلطات الثلاث وخيوط التّعيين في المناصب المدنية والعسكرية وخيوط إحالات الوزراء الفاسدين للقضاء، وأضاف أيضًا إمكانية محاكمة لمدنيين أمام العسكريين، وأصبح الآمر الناهي الذي يتغنى الأبد به كما يتغنى الأبديون بربهم.
الدّستور السّوري:
يقوم الدستور السّوري بتقسيم المواطنين السّوريين حسب انتمائهم السّياسي إلى: فئــة أولى هم البعثيون، ومنهم حصراً يرشّح رئيس الجمهورية، ويتم اختيار قادة الدولة والمجتمع. وفئـة ثانـية هم الجبهويون، ومنهم يتم اختيار بعض الوزراء والنواب والمسؤولين من الدرجة الثانية.
أمّا المضحك المبكي فهم الفئة الثالثة “المستقلون”هؤلاء الذين يضعون قدماً في الجنة وأخرى في النّار، ويغرقون في الأوهام وهم على يقين أنّ التّغيير قادم على أيديهم. أمّا الفئـة الرابعـة فهم المعارضون، وهؤلاء يعيشون في ظلام المعتقلات أو أقبية معتمة تحت الأرض تتسع لأحلامهم الطوباوية قبل أن ينتهي بهم الأمر إلى القبر أو غياهب السّجون.
من بنود الدّستور فرض الضرائب على فئات الشّعب تلك ومن المفترض أن تكون تلك الضرائب موازية لدخل الفرد، لكنّها في الدّستور السّوري تتناسب عكساً مع دخل الفرد؛ فالفئة الأولى تكاد تتنصل من الضرائب نهائيًا بينما تدفع الرابعة ضريبة وجودها وحريّتها أيضاً وقد تصل هذه الضريبة إلى الحياة نفسها.
ولم يكن الدّستور الأخير الذي وضعه الوارث ( بشار) أحسن حالاً، وربّما كان الأشد وقاحة وصفاقة حيث كفل الدّستور الحريّة واعتبرها أمرًا مقدسًا وحرّم التنصّت، والاعتقال التّعسفي، والتّفتيش، والنّفي، والتّعذيب، والاعتداء على حرمة الحياة الخاصة، والحريّة الشّخصية.. وكفل حريّة الاعتقاد، والعمل مقابل أجر منصف، كما كفل حرية التّظاهر، والاجتماع، وتكوين الأحزاب والجمعيات. ومع ذلك فقد شهدت البلاد تهجير نصف عدد سكّانها وقتل ما يقرب من مليون مواطن وبفضل عمالته وسياسته القذرة وصلت البلاد إلى أسوأ كارثة في العالم في هذا العصر.
الدّستور الإيروسي
أن تضع دولة مهما كانت دستورًا لدولة أخرى أمرٌ مرفوض تمامًا، وغير قابل للنقاش حتّى وإن كانت تلك الدولة تحت الاحتلال المباشر، لكنّ الدولة البوتينة التي جاء ترتيبها ضمن أسوأ عشرين دولة في الفساد عام 2010، هي وإيران تريد ان لأعظم ملحمة تراجيدية في العصر الحديث أن تنتهي نهاية كوميدية سوداء هزيلة، فقد خرجت علينا الدولتان الديمقراطيتان جداً بدستور جديد صاغه رجال الفكر الحرّ في دولة (بوتين الروسية)، وأيّده ووافق عليه رجال العلمانية المنفتحة جداً في دولة (الملالي) الإيرانية، وكان الأحرى أن تضع إيران الدستور بما أنّ أصل كلمة دستور مأخوذ عن الفارسية.
يكفل هذا الدستور الجديد للشعب السّوري حريّة التّخلي عمّا تبقى لديه من مال ومن كرامة.. فهل يحقق دستور أستانا
(عاصمة كازاخستان) متطلبات الشّعب السّوري أم أنّه وضع ليكفل حصص الدول الإقليمية من الكعكة السّورية؟ وهل خرج دستور أستانا من بطون تاريخ المجتمع السّوري وعاداته وخصوصياته ليلائم متطلبات المجتمع السّوري أم أنّه وضع ليكفل لروسيا وجود رئيس يبيعها بقية البلد بأبخس الأثمان؟ وهل حذف كلمة (العربية) من اسم الجمهورية العربية السّورية سيكفل دستورياً حقوق الأقليات والإثنيات السّورية بوجود المادة 17 التي تكفل المحاصصة الطائفية؟
الإجابة ليست عند الحمار الذي بلع الدستور بل عند ولي أمر الحمار الذي وضع الدستور بدلاً عنه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه