الحزم التركي في الميزان السياسي والعسكري

عبد القادر عبد اللي*

 
منذ أشهر تتعالى صيحات عملية عسكرية تركية في شمال سورية، وترد بين الحين والحين أخبار حشود تركية على الحدود مع سورية في مناطق معينة، واجتماعات مكثفة للقيادات الأمنية والعسكرية والسياسية. وقد اصطلحت الصحف العربية على تسمية العملية العسكرية المفترضة باسم “الحزم” مستلهمة الاسم من العملية العسكرية التي نفذتها السعودية في اليمن ضد الحوثيين. حتى إن أي إجازة لضابط قيادي لابد وأن تُربط بالعملية العسكرية المفترضة، وهذا ما حدث عندما حصل قائد الأركان التركي نجدت أوزال على إجازة صحية قبل أكثر من شهرين اعتبرها كثير من الصحفيين الأتراك أنها موقف معارض لهذا الضابط القيادي التركي من عملية عسكرية مفترضة في شمال سورية.
لم تخفِ الحكومة التركية رغبتها بتأسيس منطقة آمنة في الشمال السوري. وتقدّم الظرف الإنساني الذي يعيشه ملايين السوريين مهجرين مبرراً لهذه العملية. وكان أحمد داوود أوغلو رئيس الحكومة التركية قد أشار في تصريح له خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي إلى الخط الذي تطمح الحكومة التركية اعتماده بإعلان المنطقة الآمنة، وهو يمتد حوالي سبعين كيلومتراً ضمن الأراضي السورية بطول 720 كم في الشمال السوري، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية لم توافق على هذه المنطقة، ومازالت إلى الآن تعلن بين فترة وأخرى عند عدم ضرورة إنشاء منطقة من هذا النوع “حالياً”.
عندما تطلب تركيا موافقة الولايات المتحدة –بمعنى آخر الناتو- فهي لا تطلب هذه الموافقة لضعف عسكري وعدم قدرة على إنشاء هذه المنطقة فهي صاحبة أكبر جيش في حلف الناتو، بل تطلب الدعم لما يمكن أن يكون لعملية عسكرية من هذا النوع انعكاسات أخرى مستقبلية، فثمة قوتان تعارضان عملية من هذا النوع، هما إيران والقوى الكردية المسلحة الأكثر فاعلية مثل حزب العمال الكردستاني. لأن صالح مسلم رئيس الحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) صرح بوضوح بأن قواته لن تقاوم فيما لو دخلت القوات التركية بغطاء من حلف شمال الأطلسي.
يمكن تجنب أو تخفيف دور العامل الكردي العسكري في عملية من هذا النوع في حال طبقت الحكومة التركية ما بات يدعى الخطة “ب” وتتلخص هذه الخطة بعدم إعلان المنطقة الآمنة (أو العازلة) كما أعلنت الحكومة التركية على طول الحدود السورية، وتعمل على تحقيقه منذ سنة تقريباً، بل بتقسيم المنطقة إلى عدة جيوب، وإبعاد داعش عن هذه الجيوب، وفي الوقت نفسه تحول دون دخول قوات الحماية الشعبية إلى هذه المناطق التي تحوي غالبية سكانية عربية وتركمانية. وباتت المنطقة الممتدة من غربي نهر الفرات حتى “عين العرب/ كوباني” هي الخطوة الأولى “أو المنطقة التجربة” التي من الممكن تدخلها القوات التركية. والحشود العسكرية التي تقوم بها تركيا خلال الأسبوعين الأخيرين تتركز بشكل رئيس على الطرف الشمالي لهذه المنطقة، كما أن داعش بدأت بزرع الألغام في هذه المنطقة استعداداً لعملية عسكرية من هذا النوع.
الموافقة الأمريكية ضرورية أيضاً لتحييد إيران، وهذا ما ثبت بالتجربة من خلال عملية اليمن، إذ لم تنعكس تصريحاتها النارية وتهديداتها التي أطلقتها ضد السعودية أي فعل حقيقي على الأرض بسبب الموافقة الأمريكية. من جهة أخرى فإن المنطقة المستهدفة بالخطوة الأولى في إنشاء “مناطق آمنة” ليست تحت سيطرة النظام (أي ليست تحت إيران) وهكذا فإن أي حركة لها ستبدو أنها دعماً لداعش، وليس النظام، وفي هذه النقطة ليس ثمة من يجرؤ على عمل من هذا النوع.
على الصعيد الخارجي، لن تجد قوى مانعة قوية يمكن أن تعيق تشكيلها أولى جيوب المنطقة الآمنة سوى قوة كردية في منطقة ليس لها نفوذ فعلي فيها على الأرض، ولكن ماذا عن الداخل التركي؟
مؤشرات تشكيل الحكومة التركية الجديدة تقول إن ائتلافاً يجمع بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية سيشكل الحكومة الثالثة والستين في تاريخ الجمهورية التركية. فانتخابات البرلمان التركي أفرزت بوادر تشكيل هذا الائتلاف من خلال عدم تصويت برلمانيي هذا الحزب لأي من المرشحين المتنافسين على مقعد رئاسة البرلمان وهما مرشح العدالة والتنمية ومرشح حزب الشعب الجمهوري، وهكذا حظي مرشح العدالة والتنمية بالأكثرية، وفاز بمقعد رئاسة البرلمان مما اعتبر أنه بوادر لاتفاق هذين الحزبين.
ولابد من التذكير بأن حزب الحركة القومية طالما انتقد موقف حكومة العدالة والتنمية من عدم اتخاذ ما يلزم لحماية التركمان في الشمال السوري، وها هو اليوم هذا الحزب سيكون شريكاً في القرار، وبالتالي من غير المتوقع أن يقع موقع ما يسميه هو “المتخاذل”.
النقطة الحرجة والتي يتخوف منها مؤيدو العملية العسكرية التركية، ويُعول عليها كثيراً معارضوها هي “العامل الطائفي” بمعنى آخر “العلويون في تركيا” وإذا كان العلويون في تركيا منقسمون على ثلاثة قوميات (كردية، عربية، تركية) فإنهم في الحقيقة متفقون بغالبيتهم على تأييد النظام السوري، وليس ثمة صوت ناشز عن هذا التأييد. واتحاد الجمعيات العلوية هي “بنية المجتمع المدني” الفاعلة في كثير من الاحتجاجات الجماهيرية التي تؤثر بقوة على الداخل التركي وخاصة عندما يقف إلى جانبها “الشيوعيون” في تركيا.
لعل اختيار منطقة ذات غالبية عربية وتركمانية يخفف ردة الفعل الكردية، ولكن إذا قلنا بأن هناك نسبة علويين مهمة جداً في تركيا من القومية الكردية فثمة احتمال توسع الضغط الشعبي ليدخل الأكراد بقوة أكبر على الساحة التركية.
تبقى آمال الحكومة التركية معلّقة على عودة أعدد كبيرة من لاجئي تلك المناطق، وتخفيف الضغط على المحافظات الجنوبية ذات الغالبية الكردية، فهل هذه الآمال تشكل مكابح تمرد كردي جديد؟

_________________________

*كاتب سوري متخصص في الشأن التركي 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه