الحرب السورية الباردة

كما في الحياة ينقسم السّوريون المرابطون على موقع التّواصل الاجتماعي “الفيسبوك” إلى فئات تختلف اهتماماتهم وتفكيرهم باختلاف مواقعهم “الدّاخل السّوري وبلاد النّزوح” وباختلاف تفكيرهم “من حيث الثقافة ودرجة التّعليم” واختلاف عقيدتهم “الدينية والسّياسية”. وينعكس ذلك الاختلاف على منشوراتهم اليومية عبر الفيسبوك ويتبدّى على شكل صراعات عنيفة يستخدم فيها الطرفان المتصارعان كلّ الأسلحة الباردة المتاحة وكلّها تنصب في إطار الكلام لكنّ الكلام قد ينتقل إلى أرض الواقع فيسعى طرف لتصفية الآخر جسدياً وتصبح الحرب حقيقية ودموية كما هو مخطط لها أن تكون.

الفيسبوك لم يعد ملعباً افتراضياً ينفض المرء غباره عن ملابسه بمجرد الخروج منه بل أصبح أسلوب حياة يحمله النّاس معهم إلى العمل والمقهى والحديقة وأثناء الطعام ثمّ يرافقهم إلى الفراش.. تلك القضايا التي ينشغلون بها منذ الاستيقاظ وحتّى النّوم صارت مرهقة إلى درجة لا يمكن اعتبارها افتراضية بأيّ حال.

الانقسام الفيسبوكي

ثلاثة محاور شغلت السّوريين منذ أيام، نتائج جائزة نوبل، الإبادة الروسية لدير الزور، تعادل فريق “البراميل” في كرة القدم مع أستراليا.

لم يكن الانقسام هذه المرة بين مؤيد ومعارض للنظام السّوري بل كان بين المعارضين أنفسهم، فقد تعددت الاهتمامات وكان لكرة القدم نصيب “الأسد” في عدد المنشورات والاختلاف في هذه الجزئية تحديداً.

معظم الذين كتبوا عن إبادة دير الزور كانوا من أبنائها أو من الإعلاميين المراسلين لقنوات تلفزيونية.. ومعظم المهتمين بنتائج نوبل والشامتين بأدونيس مجدداً كانوا من المثقفين والمهتمين بالأدب.. وتمحور اهتمام الغالبية حول نتائج “معركة” فريق النّظام الأسدي أو ما اصطلح البعض على تسميته بفريق “البراميل” مع أستراليا والتعادل بينهما.

انقسم الجمهور كالعادة بين مُحب مُصرٍّ على نسب الفريق إلى سوريا الوطن، وكاره للفريق بسبب انتمائه للسلطة وتأكيده على أحقية بشّار الأسد بالحكم بعد كلّ تلك المجازر التي قام بها والدّمار الذي خلّفه في سوريا.

قام النظام الحاكم في سوريا وعلى مدى قرابة خمسين عاماً بإلهاء الشعب السوري بقضايا فرعية تافهة لإبعاده عن التّفكير في القضايا المصيرية الكبرى والمشاكل الهامة التي تقرّرها النخب السياسية تحت قيادة الحزب الأوحد والأب القائد وأهم تلك القضايا الحصول على القوت اليومي، ففي الثمانينات كان المواطن يقف في طابور طويل على مدى ساعات ليحصل على “قنينة زيت” قلي يسميها العوام عندنا “زيت عملي” وهو زيت لا يصلح للاستخدام الآدمي وربما لا يصلح حتّى لتزييت السيارات، وكانت علبة المحارم الورقية حلم بالنسبة للمواطن وأكبر مآسيه الحصول على وقود التدفئة شتاءً.. ومن وسائل الإلهاء التي كرّسها النّظام الحاكم وحازت على اهتمام كبير من الشّعب لعبة كرة القدم، وقد تحولت تلك اللعبة إلى حلم للناشئة فنجوميتها تطغى أحيانا على نجومية الممثلين والعاملين في مجال الإعلام بالإضافة إلى المردود المادي في حال وجد اللاعب فرصة لّلعب مع نادٍ مشهور خارج الوطن.. وهذا ما حقّقه البعض مثل مناف رمضان الذي اشتراه فريق كويتي بعقد مجزٍ ومثل عمر السومة الذي يلعب مع أحد الفرق السعودية.

عدل الملاعب

وقد برزت في منتصف السبعينات أسماء لمعت في كرة القدم جعلت الناس يسمون أولادهم على أسماء هؤلاء اللاعبين. هذا الاهتمام المبالغ فيه بهذه اللعبة يعكس حالة نفسية على غاية من الأهمية، فالمتفرج يمارس حريته المفتقدة في الواقع وهو يشاهد المباراة فلا أحد يمنعه من شتم الحكم (الحاكم) أو الاحتجاج على النتيجة في حال لم ترضه، وفي الوقت نفسه يعيش ساعة من العدل وهو يشاهد الفريقين يلعبان ضمن شروط واضحة ساعة من العدل يرعاها طاقم من الحكام الموضوعيين الحياديين، يشعر أنّه أمام لعب نظيف حر عادل.. وهي مفاهيم يفتقدها في حياته اليومية مما يجعله يتمسك بهذه الساعة الحرة التي يرى فيها العدل أمام عينيه ينفذه لاعبون يحبُّهم لأنّهم حققوا له ذلك التوازن ولو لوقت قصير لكنّه كافٍ ليسد الحاجة المفقودة لديه إلى العدل.

المعارضون للنظام خارج سوريا وداخلها انقسموا في تقييمهم لأداء الفريق كما انقسموا في نسبه.. البعض منهم غض النظر عن تصريحات اللاعب عمر السومة الذي شكر بشّار الأسد لدعمه للرياضة والرياضيين.. المفاجئ أنّ عمر السومة من مدينة دير الزور المدينة المحاصرة المدينة التي تباد بأيدي من يشكرهم..

في المقابل كان المعارضون الذين يعتبرون أنّ الفريق لا يمثل سوريا بل النظام وأطلقوا عليه لقب فريق البراميل، هؤلاء قاموا بنشر صور للاعبين اعتقلهم النّظام السّوري منذ بداية الثورة لموقفهم من النّظام.. بينما غرّد عمر السومة على تويتر شاكراً بشار الأسد وشقيقه ماهر لإطلاقهما سراح اللاعب “محمد كنيص”!

الصراع بين الفريقين المعارضين للنظام السوري تحوّل إلى استخدام الشتائم وخاصية “البلوك” والتّخوين والاتّهام بالعمالة للنظام..

والبعض لم يثرهم لا هذا ولا ذاك بل انشقوا عن الطرفين ليلاحقوا أخبار “عفراء حمشو” وهي فتاة سورية من اللاذقية مواليد 1999 تعمل “موديل” والتي صرّحت بأنّها ستتعرى في فيديو بث مباشر إذا خسر الفريق السّوري بالمباراة مع إيران وكان ذلك في الخامس من سبتمبر.. معظم الذين علّقوا على مواقع التواصل الاجتماعي وكانوا يتمنون أن يربح الفريق صاروا يتمنون خسارته!

لكن للأسف تعادل الفريقان! ويبدو أنّ عفراء قرأت التعليقات فكتبت منشوراً طلبت من جمهورها ألا “يزعل” لأنّها سواء خسر الفريق أو تعادل في المباراة القادمة ستتعرّى في بث مباشر!

من قال إنّ كرة القدم لا علاقة لها بالسياسة؟

ومن قال إنّ عفراء حمشو لا علاقة لها بالسياسة؟

علاقة هؤلاء بالسياسة هي علاقة النظام الحاكم بها فهو من كرّس التّعلق بالتفاهات وجعلها جزءًا من التركيبة النفسية للشعب وحوّلها إلى قضايا كبرى يركض وراءها البشر وينسون قضيتهم الأساسية.. إبادة الشعب السوري في دير الزور وقبلها الرقة وقبلها حلب والآن إدلب!

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه