الجيش المصري: الحاجز الأخير أمام الربيع العربي

د. نور الدين العلوي*

نركب المشهد من عناصر متفائلة ولكن بوعي كامل بحركة التاريخ التي يمكن أن ترتبك ولكنها لا ترتد إلا لتتقدم بقوة. الربيع العربي في تحليلي حقيقة لا مراء فيها، والتشكيك فيه أو تشويهه بالمؤامرة المنقادة من خارجه لا يزيده إلا قوة هذا لا يعني أن المسار الثوري كان بلا أخطاء من داخله وسقطات كبيرة  أضعفت تدفقه كما لا يعني نكران العوائق التي وضعت في طريقه أو تجاهلها والتحدث بانتصارية مرضية.
لقد كسر الجيش المصري بانقلابه العسكري على حكومة منتخبة ورئيس منتخب مسار الربيع وأوهنه طيلة سنتي 2013 و 2014 لكن الانقلاب يدخل سنة 2015  هشًّا مكسورا وفاقدا لكل شرعية في الداخل ولكل سند خارجي بما يجعلني أضع الفرضية التالية
انهيار الانقلاب سيكون انهيارا نهائيا وناجزا لآخر السدود في وجه الربيع العربي وستكون الانطلاقة الثانية للثورة العربية التي ستنسف  تاريخ الديكتاتوريات والعمالة والخيانات التي فاقت كل حد وتوقع. وسنرد في الإثناء على السؤال  هل يجب أن تبقى مصر بلا جيش لتكون هناك ثورة عربية؟ 
وهذه معطيات صارت بينة لا جدال فيها لقد تحركت الدبابة المصرية ضد شعبها في مصر وأحرقت الأحياء المسالمين. وفرضت بقوة البوط العسكري حكما غاشما ظل يقتل في الطريق وخارج المحكمة وطبعا كان له مروجون في الداخل والخارج من صنائعه ومأجوريه في كل مفاصل النظام العميق (الإدارة العميقة) لكن الانقلاب لم يقف في حدود مصر.
لقد استند النظام القديم في تونس على حركة الانقلاب المصري ليقود انقلابا آخر على أول ثورات الربيع العربي في تونس. وطالب بحل المؤسسات المنتخبة. وسار اليسار العربي والقومي للغرابة مع النظام المخلوع برجالاته وأمواله لإسقاط مشروع التغيير السلمي عبر الدستور والمؤسسات. أفلحت المناورة السياسية في تونس في حرمان الانقلاب من كثير لكنها منحت مساحة حركة للنظام القديم فعاد من خلالها إلى التحكم في مفاصل الدولة. لم تسل دماء كثيرة ولكن الثورة اضطربت وكانت صور الانقلاب المصري المربكة هي التي جعلت أنصار الثورة في تونس ينحنون لموجة العنف المحتملة ويجنبون المجتمع والثورة انهيارا كليّا باجتناب الدخول في حرب أهلية تؤدي إلى انهيارات لها أول ولا أحد يعرف آخرتها.
الانقلاب في مصر وضع إمكاناته العسكرية على ذمة حفتر ليبيا وناصره بالمال والرجال ليقوم بثورته المضادة هناك رفقة رجال القذافي وعصاباته. فضلا عن تخريب داخلي مخابراتي ليس آخرها ذبح الأقباط في مكان ما ونسبة ذلك إلى داعش التي لم تفعل في أي مكان إلا ما يؤدي إلى تخريب هذه الثورة العربية. التي اجتنبت العنف في كل مكان. 
لم يكن للانقلاب أن ينجح دون ضخ الأموال النفطية في ماكينته. وليست التسريبات الأخيرة إلا تأكيد  لحجج وأدلة سابقة منشورة بين الناس.والحدث عنها مت قبيل التذكير  فقط  كما أن الإسناد التخابري   الصهيوني ليس خافيا على أحد. فالضربات العسكرية في سيناء لا يمكن أن تكون دون  نجاح   تقني  مخابراتي قبضت به إسرائيل ثمنا في  محاصرة غزة  من كل الجهات و فتت به انتصارا عسكريا باهرا كان الجيش المصري فيه يحمي  ظهر الدبابة الصهيونية وهي تتجه إلى غزة عبر  رفح المصرية.
في كل هذه المشاهد  تحرك الانقلاب واضعا الجيش المصري في مواجهة الثورة المصرية خاصة والثورة العربية عامة  وعمل العسكريون على  خدمة أجندات معادية لكل نفس تحرري وديمقراطي وتمول من المال الفاسد المعادي للديمقراطية (وهو المال الموصوف سابقا بالمال الرجعي العميل). لقد حول العسكريون جيشهم إلى  شرطي   خادم للصهاينة  وعبثوا بتاريخه الخاص وتاريخ العسكرية المصرية عامة  والتي كانت كلما خرجت من حدودها خدمت بلدها و نشرت سلطة مصر  على جوارها. وحتى الاتكاء على تاريخ الناصرية  المؤسسة للجيش المصري الحديث  لم يكن مجديا  فقد وضع قادة الانقلاب جيشهم في خدمة الأمن الإسرائيلي  و تركوا ورقة التفاوض باسم فلسطين تسقط من حساباتهم  وهو ما لم يجرؤ عليه حتى مبارك   الذي ربي هذه القيادة على العمالة.
يمكن القول بالنهاية  الأخلاقية  لجيش انقلابي. منذ حرق الناس أحياء رغم  مدنيتهم وسلميتهم. لكن النهاية الحقيقة هي ما يحصل الآن. لقد فقد هذا الجيش  ذرائع بقائه. في المنطقة ليؤدي أدوارا غير وطنية.  لقد عرض خدماته في كل اتجاه  ولكنه لم يقبض مقابلها إلا حصرم الخيبات وفقدان الشرعية في الداخلي والتحول إلى كاريكاتير جيش في الخارج(يعالج أدواءه بالكفتة). لم يصر  قائده شرطي المنطقة  بعد مغامرته في ليبيا الفاشلة  ولم تعد خدماته قابلة للتسويق في الخليج الذي  أعاد تأليف صفه حول قيادة جديدة لا تضع على أجندتها حروبا بالوكالة حتى الآن ( رغم إيماني بأنها سلطة قرارها ليست بيدها دائما). إلا أن الانقلاب فقد كل سند بما يجعله آيلا للسقوط في كل لحظة.

شبهت انطلاقة الربيع العربي  بسقوط حجر الديمنو  فقد انطلق من تونس ليصل  الخليج  ثم  وقعت ردة بانقلاب العسكري المصري على المؤسسات كان لها مفعول معاكس. فقامت انقلابات منها تونس والآن  نشاهد  أن الجميع يتربص بنهاية الانقلاب ليعيد إطلاق  مفعول  الديمنو من جديد. قد يكون هذا مبالغة في التوقع  لكن كل المؤشرات عن صحة الانقلاب  تشير إلى انهياره  الداخلي . وفقدانه للسند الخارجي وقد بدأت  بالونات اختبار البدائل تطلق في كل مكان وبدأ بعض المتحمسين ينفضون قافزين من زورق الانقلاب بحثا عن نجاة ما.
لن يكون للجيش المصري القدرة على  انجاز انقلاب آخر مهما كانت أخطاء من سيفوض للحكم بعد سقوط السيسي و زمرته. إن تجريب القوة مرة  وفشلها يحولها إلى عبء على صاحبها .لم يمكن للانقلاب أن يسوق نفسه يغير القوة  بعد أن زرعت بذرة الحرية  في الشارع فاستعمل من القوة ما استطاع وهاهو يفقد السيطرة في الداخل ويرفض كشرطي للمنطقة المحيطة . بما يدفعه للتراجع عن استعمال القوة   أي أنه سيوضع في سياق تفتيت قوته الداخلية  وأهمها سيطرته على المقدرات الاقتصادية للبلد. فإذا فقد ذلك  فَقَدَ كُلَّ سلطة على الشارع وسيتكون هناك عملية  تصفية لقيادات تورطت في معاداة الديمقراطية  بما يدفع إلى المزيد من تحجيم القدرات على الأذى ويدفع إلى بناء جيش مختلف جمهوري وموجه لحماية البلد لا لحماية مصالح متنفذي الجيش ببيع البلد في صفقات مشبوهة.لن تبقى مصر بلا جيش إذا انهار السيسي  لكنها ستبني جيشا مختلفا على غير العقيدة  الانقلابية.
ساعتها سيكون الربيع العربي قد  أنجز خطوة جبارة في طريق بناء الديمقراطية وساعتها سيكون لمصر الدور الذي يجعلها عبقرية في المكان والتاريخ وسيكون لكل نفس انقلابي عبرة في ما أصاب السيسي وجيشه وهو أقوى جيش في المنطقة

 ساعتها سيكون لانهياره مفعولا  جبارا في انفلات العرب من جديد من ربقة الحكم العضوض والاتجاه نحو بناء الديمقراطية  بالتوازي مع تحرير فلسطين نعم وهو المطلب الأهم في المنقطة

____________________

*كاتب وتونسي واستاذ علم الاجتماع 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه