الجزائر: “تشريعيات” مرتبة بقوة “الأمر الواقع”!

لن تكون السلطات الجزائرية هذه المرة في حاجة إلى تزوير واسع النطاق أو مفضوح لترتيب الانتخابات التشريعية ترتيبا يُبقي سيطرتها المحكمة على الساحة السياسية في البلاد.

يكاد يجمع المحللون أن انتخابات الرابع من مايو/ أيار المقبل، لن تكون مزورة لأن نتائجها أصبحت في حكم الأمر المقضي، دون أن يعني ذلك أنها ستكون حرة ونزيهة وشفافة ذلك لأن الحكومة عرفت كيف تضبط “سيرورة” العملية الانتخابية من ألفها إلى يائها ضبطا يفضي بالضرورة إلى النتائج “المرجوة”.

ولأن “العام يظهر من خريفه” كما يقول الفلاحون في الجزائر، فإن عملية تقديم قوائم المترشحين وما شابها من محاباة وفضائح فساد مدوية صنع تفاصيلها بعض المسؤولين الحزبيين أو ذووهم تؤكد أن الاستحقاق المقبل يسير باتجاه نتائج محسومة سلفا. ذلك لأن معظم القوائم التي قدمتها الأحزاب كانت محل جدل ورفض كبيرين من لدن القواعد النضالية حتى أن بعض التشكيلات السياسية وعلى رأسها الحزب “العتيد” حزب “جبهة التحرير الوطني” الموعود ضمنيا باكتساح التشريعيات عرفت احتجاجات واشتباكات وتهديدات بالاستقالة الجماعية في عدد من المناطق.

“رؤوس القوائم” في المزاد

وأم المفاسد والفضائح في كل ذلك سعي بعض القيادات في بعض الأحزاب إلى بيع “رأس القائمة” لمن يدفع أكثر، وقد ضُبط بعضهم متلبسا بالجرم المشهود، واستعداد أصحاب الأموال لدفع رشوة بمليارات الدنانير للترشح على “رأس القائمة”، ظاهرة  لم تعد مقتصرة على الأحزاب الكبرى بل طالت حتى الأحزاب الإسلامية حسب ما تشير إليه بعض الوسائط الإعلامية وما تروجه”الشائعات”.

منذ إجهاض أول انتخابات تشريعية تعددية – حرة ونزيهة بشهادة الحكومة نفسها – في سنة 1992، وهاجس السلطة الكبير هو الحرص على عدم تكرار تلك التجربة التي أفرزت نتائج لم تكن في الحسبان ولم تكن تتصورها. هذا الهاجس جعلها تعيد تشكيل المشهد السياسي في البلاد إعادة شاملة وفق قوانين وتشريعات يشوبها الكثير من التسرع والشطط.

دستور 1996 والذي ينسب إلى الرئيس اليامين زروال- على اعتبار أن لكل رئيس جزائري دستوره – كان أول هذه الترتيبات بتكريسه لمبدأ عدم تأسيس أحزاب سياسية على أساس ديني أو عرقي .. هذه الوثيقة فرضت على معظم التشكيلات السياسية إدخال تعديلات على أسمائها وبرامجها ومبادئها تماشيا مع مقتضيات الدستور الجديد فيما عُرف بمؤتمرات التكيف. وهذه كانت أقصر الطرق وأسرعها لتطهير الساحة السياسية من كل التشكيلات التي شقت عصا الطاعة ورفضت الانصياع لأوامر السلطة فأصبحت في حكم المُنحلة، وإعادة الأحزاب الأخرى إلى بيت الطاعة بالترهيب والترغيب وتدبير مؤامرات وانقلابات داخلية. عملية “التدجين السياسي” هذه، صاحبتها عملية تصفية إعلامية لتكتمل الصورة وتتماهى مع تفاصيل المشهد فأُوقفت العديد من الصحف التي كانت ترى غير ما تُريه السلطة، وكُسرت شوكة صحف أخرى.

مفاسد “الإصلاحات السياسية”!

“ثالثة الأثافي”  قانون الانتخابات الذي خاطته السلطة بإتقان، ليكون أداة حاسمة في “تقطير” عملية الاقتراع.. القانون يعتمد مبدأ الانتخاب على القائمة الاسمية المرتبة ترتيبا، فالمقترع يصوت على القائمة وليس على الشخص مما يعني أن رأس القائمة – ووفقا لحسابات معقدة وغير ديمقراطية – يتمتع بفرصة أكيدة في الفوز وإن لم يكن يحبه أحد على اعتبار أن المصوتين إنما اختاروا القائمة بسبب أسماء في أواخر الترتيب مما يعني أن الأوائل فازوا بفضل شعبية الأواخر.

ثم إن هذا النظام يمنح رؤساء الأحزاب ومسؤوليها مساحة واسعة للمناورة والتلاعب والمحاباة والفساد أيضا سواء بإقصاء من يشاؤون، أو تزكية أشخاص – لا يتمتعون بأية كفاءة ولا شعبية، وقد لا يعرفهم أحد – على رؤوس القوائم وزحزحة أسماء أخرى إلى مراتب دنيا .. وما نجا من “مقصلة” لجان الترشيح الحزبية، قد تقصيه الجهات الأمنية لأن “القوائم” تخضع لتصفية ثانية أكثر صرامة من طرف الوالي حسب القانون  –  أي مصالح الأمن حسب رأي السياسيين – فالوالي أو الداخلية يمكنه أن يقصي مترشحا أو مترشحين أو قائمة بأكملها، فلا “يمر” إلا من ترضى عنه المصالح أو على الأقل من ليس لها عليه أية “مآخذ” أو ملفات! 

 ومن شطط هذا القانون اعتماده نتائج آخر انتخابات محلية مرجعية في تحديد حق المشاركة من دونها، إذ يشترط في الأحزاب الحصول على أكثر من 4% في الانتخابات المحلية الأخيرة أو عشرة منتخبين على الأقل في المجالس المحلية أو الولائية.. والغريب أن هذه الانتخابات المعتمد عليها مطعون عليها وعلى نزاهتها إذ يكاد يتفق الجميع على أنها كانت مزورة بحجة أن مصلحة البلاد اقتضت ذلك.

فزاعة “المؤامرة” لإنجاح الاستحقاق

حملة فرض سياسة الأمر الواقع بقوة القوانين والتشريعات توجتها السلطة بحملة تخويف وتهديد ينشطها بعض المسؤولين كل في مجاله يتقدمهم وزيرا الداخلية والإعلام ورئيس الهيئة المستقلة لمراقبة الانتخابات. وزير الداخلية رافع لصالح الانتخابات بنبرة تهديد ووعيد كانت صادمة للجميع فلم يتوان الرجل في تجريم الدعوة للمقاطعة ومهاجمة الأحزاب الداعية إلى ذلك وتهديدها بسحب الاعتماد.. والظاهر أن الوزير لا يعترف بأن المقاطعة موقف سياسي وممارسة لحق دستوري في حرية التعبير عن الرأي بطريقة أخرى وبأسلوب مغاير.

وزير الإعلام لم يكن أقل فظاظة في ابتزاز وسائل الإعلام وخاصة القنوات الفضائية مؤكدا أن طبيعة التعامل مع هذا الاستحقاق ستكون مقياسا لمدى احترافية وموضوعية الإعلام، وسيكون لها التأثير الكبير في احتمالات وفرص منح القنوات الفضائية الاعتماد الرسمي لتنشط بطريقة قانونية.. وزير الاتصال قال إن:” “الانتخابات التشريعية القادمة امتحان لكل الصحافة الجزائرية ولكل القنوات التلفزيونية التي لها مكاتب معتمدة وغير معتمدة. وبعد الانتخابات سنرى إذا عملت هذه الأخيرة بكل أخلاقية واحترافية بعيدا عن السب والشتم والقذف”. وكانت تلك دعوة صريحة لدخول الجميع في الصف وتزكية العملية الانتخابية والتطبيل لها وإلا فإنها ستُحرم من الحصول على الاعتماد ذلك لأن السلطة هي المخولة وحدها لتحديد مفهوم المهنية والموضوعية.

الدعوة إلى المشاركة في انتخابات لا يبدو أنها أثارت اهتمام الشارع، دفعت السلطات إلى الغلو في توظيف سيناريو المؤامرة التي تقول إنها تحاك ضد الجزائر،لتحريك مشاعر الجزائريين بحجة أن الجزائر مستهدفة من الداخل والخارج، وأن “الأيادي الأجنبية الآثمة” تسعى إلى العبث بأمن البلاد واستقرارها لأنها ظلت مستعصية عن رياح “الربيع العربي”. وما فتئت الحكومة تلوح بفزاعة التخوين ضد كل من تسول له نفسه التشكيك في نزاهة الاستحقاق، أو اتهام الإدارة بالتزوير، أو الدعوة إلى المقاطعة .. وهو السيناريو نفسه الذي تلجأ إليه السلطة كلما ضعُفت حجتها وفشلت سياستها سواء فيما يتعلق بمرض الرئيس، أو تفاقم الأزمة الاقتصادية، أو اندلاع الحركات الاحتجاجية والاضرابات، فحتى عندما احتج أطفال المدارس ضد تقليص العطلة الشتوية قالت السلطة إن أياد خارجية تحركهم.

العزوف الانتخابي شبح يرعب السلطة

وحدها فقط المقاطعة الشعبية للانتخابات وعزوف الجزائريين عن التصويت كما حصل في الاستحقاقات الأخيرة، بمقدورها أن تفشل “ترتيبات” السلطة التي عكفت على وضعها وتحصينها منذ سنين طويلة لضمان انتخابات محسومة نتائجها سلفا ظاهرها النزاهة والشفافية وجوهرها  التزوير.. وهذا هو الشبح الذي يرعب الحكومة وأحزاب الموالاة وحتى أحزاب المعارضة المشاركة التي ضَعُفت أمام الإغراءات مرة أخرى ورضيت أن تلدغ من الجحر مجددا.

كل المؤشرات تدفع إلى الجزم بأن الأحداث تسير باتجاه إعادة إنتاج نموذج الفشل نفسه الذي ظلت تجتره السلطة، وليس ثمة ما يقنع الجزائريين بأن شيئا تبدل أو تحسن بل ربما العكس هو البارز، وسيكون الجميع أمام فرصة أخرى ضائعة في مسار وطن أصبح رهينة “الترتيبات”.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه