الجزائر تساند ماكرون.. “غالي والطلب رخيص..”!

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

باستقبالها الانتصاري الكبير لإيمانويل ماكرون مرشح الانتخابات الرئاسية الفرنسية تكون الجزائر الرسمية قد حسمت اختيارها، وحددت رهانها

فهذا الاستقبال يعني تأييدها المرشح “الاشتراكي اليميني” دون غيره رغم عدم ظهور مؤشرات أو معطيات تدفع إلى الجزم بأن هذا المرشح هو الحصان الرابح، أو الأوفر حظا للفوز بكرسي الإليزيه.

إيمانويل ماكرون وزير الاقتصاد السابق في حكومة فالز، والمرشح للرئاسيات استقبل في الجزائر استقبال الرؤساء، استقبالا  رسميا قد يضاهي أو يفوق ما حظي به الرئيس الحالي فرانسوا هولاند.. لقد احتضن المسؤولون الجزائريون ضيفهم بحرارة، وعانقوه بدفء كبير، وأغدقوا عليه بالكرم والجود، أو هذا ما تشير إليه لقاءاته مع رجال الأعمال والمال الأقوياء في الجزائر.

 

ومقابل ذلك عرف ماكرون كيف يشكر السلطات الجزائرية، ويمنحهم ما يجعلهم يقتنعون بصواب اختيارهم، وقوة رهانهم.

 

فقد قال ماكرون ما يود الجزائريون سماعه، بل وعدهم بما لم يطلبوه رسميا من فرنسا.. ماكرون وصف الاستعمار الفرنسي للجزائر بأنه “جريمة ضد الإنسانية”، وطالب بضرورة الاعتذار إلى ضحايا هذه الجرائم.. وهذا اعتراف غير مسبوق فرنسيا وحتى جزائريا، إذ لم يجرؤ أي مسؤول رسمي جزائري على وصف الاستعمار الفرنسي بأنه جريمة ضد الإنسانية، ولم يجرؤ أي مسؤول جزائري رسمي على مطالبة فرنسا رسميا بالاعتذار عن جرائمها.

كل ما قيل جزائريا في هذا الموضوع كان من لدن سياسيين حزبيين أو رؤساء منظمات جماهيرية، وفي أحسن الأحوال من مسؤولين ولكن بصفاتهم الحزبية لا الرسمية..فقد ظلت الجزائر الرسمية “صامتة”، ولم تحرك ساكنا حتى عندما تمادت السلطات الرسمية الفرنسية في سن قانون يمجد الاستعمار، بل رفضت دعوات للرد بالمثل من طرف برلمانيين وزعماء سياسيين، وأجهضت مبادرات لسن قانون جزائري يجرم الاستعمار الفرنسي للجزائر.

غير أن ماكرون ما لبث أن عبر عن أسفه عن تلك التصريحات التي أثارت ضجة في فرنسا وأثرت على شعبيته حسب استطلاعات الرأي، ثم اعتذر إلى كل من جرحته أو آلمته تلك التصريحات مؤكدا في أحد تجمعاته الانتخابية أنه لم يكن يقصد الإساءة إلى الفرنسيين أو تاريخ فرنسا الحافل بالإنجازات الحضارية.. رئيس حركة “إلى الأمام” عرف كيف يدفع عقارب الساعة إلى الأمام عندما خاطب أنصاره بعبارة الجنرال ديغول “المشهورة” التي قالها للجزائريين مطلع الستينيات: “لقد فهمتكم”.. ويبدو أن أنصاره “تفهموا” وقبلوا اعتذاره.  وهذا ما يدفع إلى الجزم بأن تصريحاته حول تجريم الاستعمار لم تكن سوى شعارات للاستهلاك الانتخابي سيتحلل منها أو يعيد صياغتها إن هو أصبح رئيسا.

الجزائر اختارت مساندة رئيس حركة “إلى الأمام” رغم أنه لا يُعرف الكثير عن برنامجه  السياسي والذي لن يكشف عنه إلا في بداية شهر مارس/آذار أي قبل شهر ونصف فقط من موعد الدور الأول من الانتخابات.. كما أن استطلاعات الرأي إلى حد الآن لا تعطيه الأولوية أو التقدم على حساب منافسيه، فهو يحتل الرتبة الثانية في أحسن النتائج، حسب نوايا التصويت غير النهائية، وشريطة عدم ترشح الديمقراطي المسيحي فرانسوا بايرو..كما أنه ليس في “مواقف” هذا المرشح ما يتطابق وسياسة الجزائر سواء الداخلية أو الخارجية، فالرجل يوصف بأنه اشتراكي يميني، أي يقف في الوسط بين جناح اليمين في الحزب الاشتراكي، واليمين الفرنسي.. يشوب مواقفه غموض كبير، لعل أهمه رفضه الدائم إعلان موقفه من مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو حل الدولتين كما تدعو إليه مختلف التيارات السياسية في فرنسا.. كما أنه من الذين يمسكون العصا من الوسط في الأزمة السورية: “تأييد محتشم للثورة، دون معاداة الأسد”، وهذه مواقف لا تنسجم وسياسة الجزائر المعروفة سواء في تأييدها المطلق للقضية الفلسطينية أو مساندتها نظام الأسد.

 

إن رصد التطورات والأحداث يشير إلى أن الجزائر كانت دائما في خدمة فرنسا في مختلف الميادين وليس العكس تماما، رغم اختلاف هوية ساكن الإليزي السياسية

 

 وعليه فإن رهان الجزائر على أحد المرشحين وإبداء الاهتمام به علنا يعد ظاهرة جديدة، يعتبرها المحللون من قبيل ترف سياسي كانت البلاد في غنى عن تكلفته، لأنه لن يقدم للجزائر شيئا، إلا إذا كانت السلطات بصدد بناء استراتيجية جديدة تجاه فرنسا مخالفة للعرف القائم بين البلدين.

لا شك أن ماكرون سعيد بهذا التأييد، وما جناه من الجزائر، فهو اقتصادي متمرس، يعرف جيدا من أين تؤكل الكتف. وقد حقق مبتغاه حسب ما تشي به لقاءاته وتصريحاته، ولا يبدو أنه ينتظر من الجزائر أكثر من ذلك ليقينه بأنه ليس بمقدورها أن تفعل ما يمكنه أن يؤثر في توجهات الرأي العام في فرنسا بما فيه الجالية الجزائرية هناك.. يكاد يجمع المحللون أن الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا لا تشعر بأنها معنية بموقف السلطات الجزائرية، ولا تؤمن أن السلطات الجزائرية تمثلها أو تدافع عن مصالحها، لسبب بسيط هو أن الجزائر لم تقدم للجالية على مر الأزمنة ما يثبت جديتها في الاهتمام بقضاياها أو التدخل ولو بأضعف الإيمان للتخفيف من معاناتها في أحلك الأوقات التي عرفتها في مواجهات مع سياسات فرنسية عنصرية أو اعتداءات وتحرشات ما فتئت تتعرض إليها بين الفينة والأخرى خاصة في عهد الرئيس ساركوزي.

الجزائر أعلنت مساندتها لزعيم حركة “إلى الأمام”، لكن لم يظهر في الجزائر أي تبرير أو تفسير لهذه المبادرة في حد ذاتها، ولم يُفتح نقاش يشرح أسباب هذا الخيار وما تنتظره الجزائر من ماكرون إن هو فاز بالانتخابات، ولم تتداول الوسائط الإعلامية والمحللون الرسميون سوى تكرار الشعارات نفسها والعبارات المطاطية التي تصلح أن تقال لأي كان من المرشحين ولا تحمل أية خصوصية.. إذ يعتبر الإعلاميون والسياسيون في الجزائر ماكرون المرشح الأوفر حظا للفوز بالانتخابات الرئاسية في فرنسا، وهذا حسب رأيهم كاف لتسارع الجزائر إلى احتضانه، فيما يتوسع آخرون إلى آرائه الإيجابية تجاه الجزائر باعتبارها دولة محورية يجب تمتين أواصر التعاون معها في مختلف الميادين سواء السياسية منها وخاصة ما يعرف بتسوية ملف الذاكرة، أو الاقتصادية وما تمثله من فرص لدعم الاقتصاد الفرنسي، والأمنية ما تعلق  منها بمكافحة ما يسمى “الإرهاب”، أو مواجهة التدفق البشري باتجاه أوروبا أو ما يسمى “الهجرة غير الشرعية”.

والحقيقة أن هذه الخصائص والسمات لا ينفرد بها ماكرون فهي تفاصيل للسياسة الخارجية في “خطابات”  كل المرشحين للرئاسيات في فرنسا بمن فيهم مارين لوبان وإن بعبارات مغايرة.. لذا فالظاهر أن المبادرة كانت بطلب من إيمانويل ماكرون استجابت لها الجزائر عن طيب خاطر، ولم تكن لترفضها لو جاءتها من مرشح آخر باستثناء مارين لوبان طبعا  فالسلطات الجزائرية حريصة على “علاقات التعاون” مع فرنسا في مختلف الميادين ومع مختلف الإدارات.. إنها استمرار لتقاليد العلاقات الجزائرية الفرنسية والعرف المتبع منذ الاستقلال، سواء أيدت هذا المرشح أو ذاك أو لم تؤيد أصلا، وإن بدت في ثوب مغاير هذه المرة

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه