الثورات الشعبية في مصر الإسلامية

 

هذا كتاب صغير في حجمه، غزير في مادته، كتبه الدكتور حسين نصار الذي توفى منذ أيام، هذا العالم الجليل الذي عكف على دراسة تاريخ مصر بعد الفتح الإسلامي لها، يناقش فيها ما اعتقده البعض مسلّما بأن الشعب المصري خائر لا يثور، ويميل إلى التنبلة والدعة، وهو ما يتهم به الشعب المصري في كثير من الكتابات، وكثير من الكيانات السياسية الحديثة كذلك، فقد أثبت الدكتور حسين نصار في كتابه: (الثورات الشعبية في مصر الإسلامية) عكس ذلك، وأن الشعب المصري يتحرك ويثور عندما يجد من يحسن قيادته وتحريكه، وقد قسم الكتاب إلى بابين كبيرين، ناقش في الباب الأول الثورات الحمراء، بداية من عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ودور المعارضة المصرية بوصولها للمدينة المنورة، ثم عودتها لمصر، ودورها بعد مقتله، والقارئ لهذه المرحلة سيجد تفصيلات مهمة قام الدكتور حسين بحصرها وسردها، بشكل مختصر، لكنه غير مخل، وفيه تفاصيل دقيقة تغيب عن الكثيرين.

الثورات الاقتصادية:

ثم تعرض في فصله الرابع للثورات الاقتصادية، حيث كانت مصر سلة غذاء العالم الإسلامي وقتها، ففي سنة 107 هجرية كتب صاحب الخراج إلى الخليفة هشام بأن أرض مصر تحتمل الزيادة في خراجها، فزاد على كل دينار قيراطا، فقامت الفتن والثورات في الحوف الشرقي وحول الفسطاط، ولم يستطع الوالي إخماد هذه الثورات إلا بعد سفك كثير من الدماء.

ولما ولي حفص بن الوليد (124-127) زاد في أرزاق الجند وفرض لهم فروضا جديدة سخية. فلما ولي حسان بن عتاهية عام 127هـ، أسقط هذه الفروض والزيادات، فوثب عليه الجند وقالوا: (لا نرضى إلا بحفص) وركبوا إلى المسجد ودعوا إلى خلع الخليفة مروان بن محمد، وحصروا حسان في داره، ثم أخرجوه من مصر هو وصاحب الخراج، ثم أخرجوا حفصا من السجن وولوه مصر، واتصلوا ببعض الثائرين في فلسطين لتوحيد كلمتهم.

ومضى حسان إلى مروان وذكر له ما وقع له مع أهل مصر، وفي تلك الأثناء قدم حنظلة بن صفوان الكلبي من إفريقية ونزل الجيزة، فكتب الخليفة مروان إلى أهل مصر: (أما إذ أبيتم ولاية حسان فقد أمّرت عليكم حنظلة بن صفوان). فامتنع المصريون من ولايته وأظهروا خلع الخليفة. ومضى جيشهم فمنع حنظلة من دخول الفسطاط وأخرجه إلى الحوف الشرقي، وحاربوه فهزم. وحينما رأى الخليفة ذلك سكت عنهم بقية سنة 127 على مضض.

 الثورات البيضاء في مصر الإسلامية:

ثم تناول الدكتور حسين نصار الثورات البيضاء في مصر الإسلامية، بعد أن فصل في الثورات الحمراء في جميع العصور التي مرت بأهل مصر، سواء ثورات قام بها الأقباط في مصر وحدهم، أو ثورات قام بها المسلمون وحدهم، أو ثورات قام بها الطرفان معا، وهي صفحات معظمها مجهولة من تاريخنا المصري للأسف، وفي الباب الثاني للكتاب انتقل للثورات البيضاء (السلمية)، وكيف أن للمصريين باعا طويلا فيها على عكس تصورات الناس عنها، فقد استخدم المصريون ألوانا متعددة من هذه المقاومة البيضاء.

المصريون والعصيان المدني:

وأول هذه الوسائل التي استخدمها المصريون هي امتناعهم عن التعاون مع الحاكم والحكومة، وهو ما يعرف في عصرنا بالعصيان المدني، فأول وسائلهم في ذلك: عدم الترحيب بالحاكم، وسوء استقباله عند توليه الحكم، فحكى المؤرخون مواقف كثيرة للمصريين استقبلوا فيها حكاما لم يعجبوهم استقبالا فاترا، ولم يقبلوهم ولا اعترفوا بهم، ففي عام 58 هـ ولى معاوية بن أبي سفيان ابن أخته عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي، المعروف بابن أم الحكم على مصر، وكان قبل واليا على الكوفة فطرده أهلها لسوء سيرته. فاستقبله معاوية بن حديج على مرحلتين من مصر، وقال له: (ارجع إلى خالك. فلعمري لا تسير فينا سيرتك في إخواننا من أهل الكوفة) فرجع إلى معاوية ولم يدخل مصر.

وفي عام 62هـ ولى يزيد بن معاوية سعيد بن يزيد الأزدي من أهل فلسطين، على مصر، فلما قدم إليها، تلقاه أهلها ووجوه الناس، ولما رأوه شابا قال عمرو بن قحزم الخولاني: (يغفر الله لأمير المؤمنين. أما كان فينا مائة شاب كلهم مثلك يولي علينا أحدهم). ولم يزل المصريون على الشنآن له، والإعراض عنه، والتكبر عليه، حتى توفي يزيد ودعا عبد الله بن الزبير إلى نفسه، فوثبوا على سعيد وعزلوه. ومنها: أنه في عام 108هـ ولى هشام بن عبد الملك حفص بن الوليد على مصر، فكرهه المصريون، ووالوا الشكوى منه إلى الخليفة، حتى عزله ولم تزد ولايته عن أربعين يوما.

الامتناع عن التعاون مع الحاكم:

وأخذ هذا الامتناع بعض الأحيان صورة أخرى، مع من كرهوهم من الحكام، أهمها: الامتناع عن تنفيذ الأوامر، فهذا هو مروان بن الحكم يستخلص مصر من أيدي أتباع عبد الله بن الزبير ويدخلها غازيا، وإذ يتم له ذلك يجمع الناس أن يبايعوه فيأبى ثمانون رجلا من (المعافر)، ويقولون: إنا قد بايعنا ابن الزبير طائعين فلن نكن لننكث بيعته. فقدمهم مروان فضرب أعناقهم.

وأراد هشام بن عبد الملك أن يوحد المكاييل في خلافته، فبعث مُدْيا إلى مصر وأمر أن يتعامل المصريون به، فأمر الوالي فطيف به على القبائل حتى أتوا به إلى (المعافر) فعرض عليهم، فبرز منهم عبد الرحمن بن حيويل، وأخذه ثم ضرب به حجرا فكسره، قال: إن لنا ويبه وأردبا قد عرفناهما ولسنا نحتاج إلى هذا، فلقب منذ ذلك الحين (كاسر المدى) وصار نسبا لبنيه (بنو كاسر المدى) وقال شاعرهم:

قومي الذين تبادروا      مُدى الخليفة بالحجر

وتحزبوا وتعصبوا     وجثوا عليه فانكسر

من بعد ما ذلت له   أعناق يعرب بل مضر

وكان من وسائلهم في الامتناع عن التعاون مع الحاكم، عدم تسليم من يطلبه الوالي، ويبحث عنهم لعقابهم، فيرفضون تسليمهم، ويساعدوهم على الاختباء والهرب. وذكر في ذلك دكتور حسين نصار عدة أحداث مهمة.

المقاومة القولية:

ولجأ المصريون إلى المقاومة بالشعر والنثر والقول والزجل، وبكل فن استطاعوه اعتراضا على الحاكم وظلمه، وكتبوا في ذلك أشعارا، منهم الحسن بن خاقان وزرعة بن سعد بن أبي زمزمة الفرصة، وقد كتب أبياتا يتهم الحاكم فيها بالرشوة والسرقة، فأهدر دمه.

وكثر في هجاء المصريين تعيير الأمراء والحكام بالهزيمة فيما اشتبكا فيه من وقائع حربية، قال أبو بجاد الحارثي يهجو السري بن الحكم عندما هزمه عبد العزيز بن الوزير الجروي بشطنوف وقتل ابنه ميمونا:

جمع رعاعك يا سرى فإنها    حرب تحس سعيرها قحطان

قتلوا أبا حسن وجروا شلوه    كالكلب جر بشلوه الصبيان

ولت تجيب وأسلمته جيادها    عيلان يوم تواكلت عيلان

فاستخرجوه ملببا فأتى به     يجري ويهرج حوله السودان

لا تبك فالعقبى لإخوته غدا   أو بعده، فكما تدين تدان.

واستخدم المصريون كذلك فن السخرية والنكتة على الحكام والأمراء، ولهم في ذلك باع طويل لا يتسع المقام لذكر طرف منه. ولكنا أردنا فقط العرض الموجز لكتاب مهم يرد على من يتهم الشعب المصري التنبلة والخمول، وأنه شعب لا يثور، وهو كلام يبطله التاريخ والواقع، ورحم الله الدكتور حسين نصار فقد أجاد وأبدع في كتابه (الثورات الشعبية في مصر الإسلامية).

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه