التنافس مع داعش

إذن فالصراع كان للتنافس حول استخدام الدين، ولم يكن لإخراج الدين من العملية السياسية ومن مؤسسات الدولة بالكامل، وليس من المجتمع، والفارق كبير.

سعيد شعيب*

أظنك تتفق معي أننا كمسلمين بحاجة لثورة دينية، سواءً قال ذلك الرئيس عبد الفتاح السيسي أو غيره.

واظن ايضاً أنك تعرف مثلي أن هذه المطالبات موجودة طوال الوقت من قبل مثقفين ومفكرين، وأن هناك محاولات جادة منذ أوائل القرن الماضي لإنجاز هذه الثورة.

فالدعوة  أياً كان مصدرها تحتاج الى نقاش جاد، لأنه يتعلق بمستقبل مصر والشرق الأوسط، بل ومستقبل الإسلام والمسلمين في العالم.  لكن المشكلة هي أن مطالبات السيسي ، رغم صحتها، لا يقدر عليها، لأسباب كثيرة أولها واهمها أنه لا يمكن  تحجيم التطرف والإرهاب بالاستبداد وقمع الحريات الفردية والعامة. كما أنه لا يمكنك أن تصد موجات التطرف العنيف وغير العنيف، بأن تكون منافساً لهذه التيارات على احتكار التحدث باسم الدين والاستخدام السياسي له، فهذه معركة خاسرة سوف يكسبها حتماً الأكثر تشدداً وتطرفاً.

بدون شك المسلمين في العالم يواجهون مأزقاً غير مسبوق، فقد اصبحوا عنوان الإرهاب في العالم . بعضاً منهم يثيرون الرعب في الدنيا. فمنذ أيام على سبيل المثال وقع الحادث الإجرامي في قلب باريس، حيث جرت مذبحة مسلحة لصحفيين وعاملين في الجريدة الأسبوعية الفرنسية “شارلي ابدو” بحجة إساءتها للرسول (ًص). وقبلها هجمات إرهابية في العاصمة الكندية والعاصمة الأسترالية. 

لكن الحقيقة المرة في بلادنا أن من يريدون محاربة داعش، هم في الجوهر منافسون لها، واقصد بالتحديد من يحكمون الآن.

أما باقي تنويعات الإسلام السياسي، فقد فشلت لأسباب كثيرة في تطوير مشروعها من دولة دينية فجة أو بطلاء ديمقراطي زائف، إلى مشروع لا يخاصم الدولة العلمانية الحديثة، ولا يخاصم القيم التي استقرت عليها الإنسانية، أي يكونوا جزءً من التقدم الإنساني.

كانت هناك بالطبع هناك فرص لتطوير هذا المشروع بحيث لا يخاصم الدنيا، منها مثلاً في داخل الإخوان تيار الدكتور عبد المنعم ابو الفتوح. والرجل كان أكثر قرباً لمشروع الدولة الحديثة. واذكر أنني أجريت معه حواراً لجريدة “العربي”  قبل ثورة يناير بكثير، وقال فيه إنه ليس ضد حرية الإلحاد، وليس ضد أن يتولى الرئاسة مسيحي وغيرها من الأفكار اللامعة. لكن تعرض الرجل في أعقاب هذا الحوار إلى محاكمة داخل الجماعة. كما أنه كما يعرف القارئ الكريم من المهمشين والمستبعدين داخل الجماعة، حتى أنهم اختاروا غيره ليكون مرشحهم الرئاسي. 

الفرصة الثانية كانت في حزب الوسط، وكان في الحقيقة يقدم اطروحات جديدة تصالح بين الثقافة الدينية التقليدية وبين الدنيا. واذكر أنني أجريت حواراً مطولاً معه ايضاً لجريدة “العربي” مع المهندس ابو العلا ماضي فك الله سجنه، قال فيه الكثير من الأفكار الجريئة كان منها مثلاً “أن من حق المسلم تغيير دينه”.

كل هذه المشاريع تم اجهاضها لأسباب داخل تنظيماتها، ولكن السبب الأهم هو أنه تم سد أفق أي تطور لها بعد ما حدث في اعقاب ثورة 30-6 ، فتعرض الجميع للسجن والقتل والتنكيل بالحق وبالباطل. وفي مثل هذه الأجواء الاستبدادية ينمو التطرف وليس التطور داخل مناخ ديمقراطي (مثلما يحدث في تونس مثلاً) . ومن ثم فشل الرهان على أن هذه التيارات تصبح جزءا إيجابياً من مجتمع علماني مثلما حدث في دول أخري مثل تركيا وإندونيسيا وماليزيا.

هذه أول أسباب فشل ما يطالب به السيسي “ثورة دينية”، فمن المستحيل أن تفعل ذلك وأنت تقمع الحريات الفردية والعامة، التي تمكن من طرح الأفكار الجريئة ونقاشها وتطويرها. فالحريات الدينية، بمعنى النقاش الحر للأفكار الدينية، وللكتب الدينية مثل البخاري ومسلم وغيرهم، كيف يتم وأنت لا تستطيع انتقاد الرئيس نفسه أو مؤسسة مثل الجيش؟! .

فالحرية لا تتجزأ، واذا جندتها سلطة حاكمة، فهذا يعني أنها لم تعد حرية من الأساس، وتعني ايضاً أنها حرية في طريق محدد اختارته لكي تحقق مصلحتها هي وحدها. وفي هذه الحالة ستكون “الثورة الدينية” وما يتلوها من “خطاب ديني” مفروض بالقمع والاستبداد، هو بشكل أو اخر خطاب السلطة. 

لا أظن أنك تحتاج لكي أدلل على أن هذه الطريقة في بناء الدول فشلت فشلاً ذريعاً، فعلى سبيل المثال لا يمكنني اعتبار أن تجربة كمال اتاتورك في تركيا في فرض العلمانية بالقمع والاستبداد نجحت. والنجاح حدث عندما أصبح الإسلاميون جزءا طبيعياً في بلد ديمقراطي، أو كما قال اردوغان “أنا رئيس مسلم لدولة علمانية”. لي تحفظات، وربما لك تحفظات على التجربة التركية، وعلى أداء أردوغان، لكن  بشكل عام حدث الدمج. واظن أن التجربة التونسية مرشحة لمسار شبيه، وربما لنجاح أكبر. 

السبب الثاني هو أنه في الحالة المصرية السلطة التي تحكم منذ عبد الناصر وحتى الآن، تنافس داعش وغيرها من تنويعات الإسلام السياسي في التحدث باسم الدين واحتكاره . فهذه السلطة كانت حريصة طوال الوقت على أن يصبح الدين مصدر أساسي إن لم يكن الأول لشرعيتها. عبد الناصر مثلاً حشد الشعب المصري ( ليس كله مسلمين) من على منبر الأزهر. السادات كان يسمي دولته العلم والإيمان. مبارك لا يختلف كثيراً ، وصولاً الى الوضع الحالي. فمثلاً قال خطيب مسجد منذ فترة إن الله ورسوله واصحابه راضون عن الرئيس السيسي لذلك نجح في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية.

اذن فالصراع كان للتنافس حول استخدام الدين، ولم يكن لإخراج الدين من العملية السياسية ومن مؤسسات الدولة بالكامل، وليس من المجتمع، والفارق كبير. وليس المقصود طبعاً ألا تكون هناك تيارات سياسية بخلفية دينية، لكن المقصود أنه أياً كانت الخلفيات التي تنطلق منها القوى السياسية، لا يحق لأياً منها أن يغير طبيعة الدولة.

وقد فشل  لأسباب كثيرة رهان ثورة يناير الكبير على مشروع الدولة الديمقراطية الحديثة . فشل ايضاً رهان ثورة 30-6 لذات الأسباب تقريباً. فلم يحدث تغيير جوهري في بنية هذه النخبة السياسية. ولذلك لم تمتلك الإرادة الكافية لبناء مجتمع يعترف ويقر ويحمي التنوع والاختلاف. وينعكس ذلك في التعليم وفي مختلف مناحي الحياة.

فتمت إزاحة الإخوان وحلفائهم. وحلوا هم محلهم ليستخدموا الدين لصالحهم ولكن بموديل خالي من الفجاجة، بوجوه أكثر تسامحاً، لكنه يحافظ على الجوهر.  
هل هذه مبالغة؟
اؤكد لك: لا. 

قد تنتهي داعش الحالية. لكن سيظهر غيرها وغيرها بأشكال وتنويعات لا أول لها ولا اخر. تنويعات تحمل السلاح واخرى تجيش المسلمين استعداداً لحمله عندما يحين الوقت المناسب.

أما اذا كنا جادين في الحرب ضد داعش وأشباهها، فنقضي عليها ونقلل خطرها كثيراً، فاعتقد ليس أمامنا، إلا أن نتنازل عن منافسة داعش وأخواتها في استخدام الدين، لنبني دولة علمانية، وظيفتها ودورها الوحيد هو حماية الحريات الفردية والعامة والدفاع عن حق التدين والاعتقاد، أياً كان، دولة وسلطة لا تحتمي بالدين. دولة حرة تحمي مجتمع حر والعكس.
_________________

*كاتب وصحفي مصري

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه