التناحر والموروث الاستبدادي

 

أتفق منذ القدم ومنذ توجه الإنسان لبناء مجتمعات متجانسة أن تقوم تلك المجتمعات على مبدأ التفاهم والتكامل والتعاون بين الأفراد لا مبدأ الصراع والتدافع والتناحر

المجتمعات القوية أواصر وأسباب

تطورت الفكرة بتطور الإنسان الحضاري ونزول الرسالات السماوية بما تحمله من توجهات أخلاقية تهذب الفوضى الإنسانية المتبقية من عصور ما قبل التاريخ، ومثل وجود المفكرين والفلاسفة والمعلمين والأدباء علاوة على وجود الحاكم القوي الذي يؤمن بجدارة محكوميه واستحقاق بني جلدته لحياة عزيزة علي مر العصور، عوامل حفظ لمنظومة القيم الأخلاقية والتي تؤكد على تماسك المجتمع في مواجهة أي قوي خارجية يمكن أن تهدد استقراره ووجوده.

وحين أتى الإسلام بالرسالة الخاتمة شرع مبدأ الأخوة فقال تعالي في سورة الحجرات ” إنما المؤمنون أخوة ” فصارت آصرة الدين أقوي من كل أواصر النسب أو القطرية الضيقة أو العرقية المذهبية المحدودة أو التاريخ أو التجاور ، ومع أن الإسلام لم ينكر تلك الأواصر، بل جعلها جزءا من الفطرة السليمة للإنسان الطبيعي، إلا  أنه جعل العقيدة الدينية هي الأساس المتين في توطيد العلاقة بين أبناء المجتمع الواحد، وكان الإجراء الأول للنبي محمد صلي الله عليه وسلم في المدينة هو المؤاخاة بين المهاجرين الذين يمثلون مجتمعا مختلفا في طبيعته وأخلاقه وبيئته، والذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم هربا بحريتهم وحفاظا علي دينهم من بطش الكافرين، وبين الأنصار الذين يمثلون أصحاب الأرض بعاداتهم وسلوكياتهم وموروثاتهم، ليندمج المجتمعان ويذوبا في بوتقة واحدة ليصير التوارث بين الإخوة الجدد واجبا، وليتنازل الأخ لأخيه مختارا عن نصف حياته في حالة من التكافل المجتمعي غير المسبوق ، وحين يختلط الاندماج المجتمعي بالآصرة الروحية إلي جانب الآصرة الاجتماعية تتحول الدولة إلي واحدة من كبريات الدول واعتاها وأكثرها صلابة، خاصة إذا استند كل ذلك لنظام يحقق العدالة في مطلقها فيقضي علي الضغائن والأحقاد والحسد والكراهية والفرقة بين أبناء المجتمع الواحد .

دور المستعمر في اختراق اللحمة المجتمعية المصرية

وفي مصر التي مرت عبر عصورها بحالة من الاختلاط العجيب بين العقائد المتعددة نظرا لتوالي وطول مرات احتلالها، إلا أنها استطاعت نسبيا أن تحتفظ بهوية خاصة تجاوزت من خلالها نقطة الخلاف العقيدي الذي يمكن أن يخلق حالة من الصراع الأيديولوجي في أي مجتمع كان، وعاش المصري المسلم الذي يأمره دينه بالإحسان إلى أهل الكتاب دون أن يشغل تفكيره بتلك الاختلافات جانبا إلى جنب مع المسيحي واليهودي في حالة من التعايش الطبيعي الفريد وكأنها تدخل في خصيصة من خصائص الإنسان المصري ووحده يتفرد بها

ولم يذكر التاريخ أن المجتمع المصري تعرض لهزات اجتماعية أو لحالة من العنف أو الصراع نتيجة لخلاف أيديولوجي داخلي ، وإنما ارتبطت كافة أشكال الصراعات الطائفية بفترات الاحتلال الخارجي كفترة الاحتلال الروماني لمصر التي أذاق فيها الرومان ـ رغم مسيحيتهم ـ  نصاري مصر ويلات الملاحقة والتعذيب ، وفي الوقت الذي اشتدت فيه الحرب بين الفاتحين المسلمين والدولة الرومانية وقتل المسلمون قائدهم أرطبون لاقى نصاري مصر الجيوش الإسلامية بارتياح كبير ، وتحرر النصارى من اضطهاد الرومان على أيدى الفتح الإسلامي وأعاد عمرو بن العاص بطريرك النصارى «بنيامين» وفي هذا الشأن يذكر المؤرخ المسيحي يوحنا النقيوسى عن عمرو بن العاص : احترم أملاك الكنيسة ولم يقترف عملا يعاب عليه ، فعاش أهل البلاد في سلام ديني وتمتعوا بحرية العبادة ، وأعاد إنشاء الكنيسة الوطنية وأديرة وادي النطرون ودير الأنبا مقار ، وجاء الرهبان أفواجا يؤكدون إخلاصهم له كحاكم للبلاد.

ومن هنا نجد أن المصريين بطبيعتهم علاوة علي كونهم مسلمين في أغلبيتهم لم يسعوا يوما لفتنة ما مع صاحب أي ديانة أخري ، بل علي العكس فقد تدفعه بعض الصراعات لمزيد من التماسك بين أفراد الأمة الواحدة علي اختلاف عقائدهم ، بل وزد علي ذلك فربما رفض الإنسان المصري بعض من يخالفونه مذهبيا من داخل عقيدته ذاتها في الوقت الذي يتقبل العيش فيه بجوار غيره من أصحاب الديانات الأخرى وخير شاهد علي ذلك فترة الحكم الفاطمي الذي أنشأ الجامع الأزهر خصيصا لنشر المذهب الشيعي ، وخرجوا من مصر دون أن يتأثر أهلها عقيديا  ، ويتحول الأزهر ذاته إلي أكبر جامع وجامعة تعلم مسلمي العالم المذهب السني وتقف موقف الحصن المتين دون الإسلام الوسطي الشامل

والغرب الصليبي الذي أرسل أول وفوده غازيا متمثلا في جيش فرنسا قد فطن لخطورة اللعب علي وتر الدين للتأثير علي حالة الانسجام المجتمعي تلك فحاول إفساد تلك المنظومة ليدخل للمجتمع المصري من خلالها في حالة ضعف داخلي، تسمح له بالتوغل والسيطرة عليه ، ففي العام 1798 مع قدوم الحملة الفرنسية  إلى مصر أعلن نابليون عن عزمه تجنيد عدد عشرين ألف جندي من الأقليات غير المسلمة ليستخدمهم كنقاط ارتكاز لمشروعه الاستعماري في الشرق ، وفي العام 1799 وجه نداء للأقليات اليهودية في العالم لمساعدته في احتلال عكا وذلك في مقابل مساعدتهم للاستيلاء علي فلسطين ، ووقع في فخه ” يعقوب حنا” ليجمع ألفين من النصارى فيما اعتبر عمله هذا خيانة للأمة كلها مسجلا حتى في الكنيسة كجريمة لا تغتفر ، ومن هنا نرى أن محاولات الإفساد المجتمعي داخل مصر كانت مرتبطة بالاستعمار أو التآمر الخارجي وليست نابعة من طبيعة الشخصية المصرية البسيطة

وحين رحل المستعمر عن البلاد لم يتركها لشعوبها تقرر مصيرها بنفسها فتختار حاكمها وتدير مقدراتها، وإنما أراد المستعمر ضمان استمرار السيطرة على تلك المستعمرات وذلك باستخلاف حكومات عميلة تضمن الولاء الكامل له مقابل الاحتفاظ بكرسي الحكم وبعض الفتات الذي يلقيه المستعمر له في الوقت الذي تمتد فيه سياسات المستبد لتتجاوز بمراحل أفعال المستعمرين لتطول فترات حكمهم وبقائهم جاثمين على صدور العباد والبلاد

الاستبداد أشد خطرا

وقد تعرضت مصر لهزات استبدادية عنيفة عبر عصورها قديما فضلا عن العصر الحديث الذي توالي عليها فيه الاستعمار الأوربي ليخلف بدلا منه أنظمة عسكرية كانت أشد بأسا على شعبها وكانت بديلا له في تحويل مقدرات البلاد لغير أهلها في حالة من العسف التاريخي غير المقبول حضاريا ولا إنسانيا

والمهمة الأولي للمستبد هى تفريق المجتمع وتقسيمه والقضاء التام في أسرع وقت على اللحمة المتأصلة عقيديا وتاريخيا وجغرافيا فيفتت قوتهم ويدمر إرادتهم ويجعلهم شتي فتضيع الرؤى ويتفرق الشمل، وهذا ما فعله فرعون بأهل مصر اتباعا لقاعدة فرق تسد كما قال تعالي في سورة القصص ” إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)  

يقسم المجتمع إلي طبقتين الفرق بينهما شاسع ، بل طبقتين متحاربتين ، احداهما شديدة الفقر والثانية شديدة الثراء، احداهما مقهورة ذليلة والثانية مستبدة بالتبعية للمستبد، يقول الكواكبي ” الحكومة المستبدة مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع ” ، ” وجرثومة البلاء ” كما أسماهم الكواكبي هم من يطلقون علي أنفسهم طبقة ” الأصلاء ” ، بهم يدفع المستبد البلاد لنار الحقد والغل والكراهية والتناحر بين العباد ، وعلي تلك النار يعيش ويستمد جذوة ملكه ، وتلك الفرقة هي الضامن الوحيد لبقاء المستبد ، فلا يبقي دين ، ولا يبقي خلق ، ولا يبقي علم ، ولا تبقي صحة ، ولا يبقي مجد أو تاريخ أو قيمة معنوية يمكن أن يلتف حولها الخلق ، بل هو الحرص علي الدنايا وسفاسف الأمور ، والهبوط بالإنسانية إلي دركها الأسفل وانتشار الأمراض القلبية والأخلاقية ، والفرد في هذه الحالة هو كاره لوطنه ، ينتظر الفرص للهجرة والبحث عن لقمة عيش في وطن آخر ، يقول فولتير” في ظل ملك صالح يكون للإنسان وطن. ولكنه في ظل ملك شرير لا وطن له ” والمستبد ملك ظالم لا يعرف العدل ولا الرحمة، فلا يشعر الفرد برغبة في البقاء في وطنه، ولا يبحث له عن رفعة بعدما انشغل بمجرد البقاء، والدولة المستبدة عند الكواكبي ” يكون نتاجها الاستبداد في كل حالة، فالزوج مستبد بزوجته كي يفرغ فيها كل نير غضبه نتاج الظلم الواقع عليه ممن هو أكبر منه، والوالد مستبد بأبنائه، والمعلم مستبد بتلاميذه وهكذا، فتضعف الروابط المكونة للمجتمع وتستبدل بالكراهية والضغائن

سبيل الخروج من مأزق التمزق المجتمعي المصري الحالي

مما سبق يمكن أن نجمع خيوط أزمة الانقسام الظاهر في المجتمع المصري والتي تكونت نتاج أسباب متراكمة بدأت بالاستعمار وانتهت بالحكم العسكري الاستبدادي الانقلابي منذ الثالث والعشرين من يوليو 1952 وليس منذ الانقلاب الأخير فقط ، ووضع الحل الأمثل لأي مشكلة يجب أن يقوم بمعالجة ومواجهة السبب الأساسي لها ، ومن هنا تصبح مواجهة المنظومة الاستبدادية في البلاد وإسقاطها من جذورها هو الواجب الأول علي كل مصري يريد أن يعيد لبلاده مكانتها المنوطة بها في ريادة المنطقة العربية والإسلامية كما كانت دائما عبر تاريخها، إن الطريق لنهضة مصر يبدأ أولا من إعادة روح العدالة الغائبة ، والحفاظ علي أمن وأمان المواطن البسيط ، ووضع جيش البلاد لحماية أهلها ، وإعطاء التعليم المكانة اللائقة به لنهضتها ، وتولية الصحة القدر الكافي من الاهتمام ، والاهتمام بتكوين الفرد الصالح لمهام البناء وكل ذلك لن يتأتي في ظل حاكم مستبد يتخذ من القتل وسفك الدماء والتفريق بين طبقات المجتمع سبيلا لبقائه وغاية لوجوده ، إنه علي الشعب المصري أن يعي جيدا أن الأمر لم يعد رفاهية وأن الانهيار التام للبلاد قد أوشك على الوقوع لولا أن يتداركه الله برحمته ويلهمه سبيل المقاومة الكفيل باجتثاث أصل الداء والخلاص منه وذلك باتخاذ كافة وسائل المقاومة المشروعة للخلاص من ذلك الكابوس الجاثم علي صدور العباد منذ ما يقرب من سبعين سنة عجاف أصبحت مصر التي تتمتع بثروات لا تقدر من أفقر وأقل دول العالم شأنا ، وليس للمجتمع الدولي لمن يتوقع تدخله شأن في تلك المسألة التي لا تخص سوي الشعب وحده ، فالحريات لا توهب ولا تمنح ، والأمجاد تصنع بأيادٍ شعبية خالصة لا بأياد أجنبية .

 وسيظل المصري حبيس ذلك الظلام المخيم على البلاد والذي سيزداد مع الوقت سوءا ما لم يقرر أن ينهض وينتفض ويتحدي ويدفع الثمن اللازم للخلاص.

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه