التغيير السياسي: قراءة نظرية في الأبعاد والأنماط

وأياً كان نمط التغيير، يبقي جوهره ثابتاً، كما أكدت عليه كثير من المؤلفات والاتجاهات، أنه حالات التحول التي يخوضها المجتمع للانتقال إلى أوضاع أفضل…

د. عصام عبد الشافي*
يري الفيلسوف اليوناني “هيرقليطس”: أن فلسفة التغيير فلسفة عميقة من الصعب تحديدها في سطور أو مؤلف وذلك لامتدادها الزمني منذ وجود الخليقة، وأن كل شيء متغير وأن التغيير سابق للثبات.
ويري أفلاطون: “إن العوالم عالمان، عالمنا الذي نعيش فيه والعالم الذي ينتظرنا.. أما عالمنا الذي نعيش فيه فهو عالم التغيير ويستمد طاقته من عالم الثبات (عالم المثل)، أما العالم الآخر فهو العالم الذي لا يوجد فيه تغيير بل هو عالم الثبات.. المليء بالكمال والخلود والمثالية وهو العالم المناظر للعالم المتغير، والمتطلع للحياة يجد التغيير سنة من سنن الله في الكون، وهو ضد الثبات، كما أنه تعبير عن حركة دائمة تكتنف المخلوقات على شكل تراتبية تنازلية وتصاعدية.
أما “كارل ماركس” فقد ربط التغيير الاجتماعي بالعامل الاقتصادي، وزعم أن وراء كل تلك التغييرات والتحولات الاجتماعية عوامل اقتصادية بحتة. وتنطلق مقولات (ماركس) من عدة فرضيات، منها: أن مهمة الفلاسفة هي تغيير التاريخ، وأن جل الفلاسفة قد تخلوا عن مهمة تغيير التاريخ، وأن جل الفلاسفة قد اكتفوا بمهمة فهم التاريخ، وأن المهمة الصحيحة المطلوبة حاليا هي تغيير التاريخ لا فهمه، وأن هناك قدر من التضارب بين مهمة فهم التاريخ وبين مهمة تغيير التاريخ، وأن فهم التاريخ ربما يعيق تغيير التاريخ.
وأضاف ماركس: إن تغيير التاريخ أهم من فهم التاريخ، وأن التغيير المطلوب للتاريخ هو مسألة واضحة ومحددة لا تتطلب سوى التركيز عليها. فهي لم تعد تتطلب فهم، بل تتطلب البدء فيها فورا، دون تضييع وقت في تلكؤ الفهم، وأن فهم التاريخ هي مهمة عفا عليها الزمن، بحيث أصبح المطلوب حاليا وبإلحاح هو تغيير التاريخ وليس فهمه، وأنه بإمكان الفلاسفة تغيير العالم بدل الاكتفاء بتفسير وفهم العالم.
وفي إطار هذه الأفكار يمكن القول إن التغيير في إطاره العام، يحمل معنى الحراك وعدم الثبات وعكسه الجمود، لكنه في التفاصيل والمنهج لم يكن نقطة إجماع، فظهرت المدارس المختلفة التي تعنى بالتغيير انطلاقا من هدفه وأسسه أو حتى مناهجه وطرقه.
كذلك فإن التغيير يعبر عن حراك المجتمع الرافض لواقعه أو لبعض جزئياته، ويسعى إلى الانتقال به نحو مرحلة جديدة تمثل هدف عملية التغيير. أو هو “عملية تحليل الماضي لاستنباط التصرفات الحالية المطلوبة للمستقبل، ويشمل التحرك من حالة حاضرة إلى حالة انتقالية حتى نصل إلى الحالة المنشودة في المستقبل”.
هذا التعريف المرن والعام للتغيير يضم تفرعات عديدة تعبر عن الخلاف في وجهات النظر، فالشق الأول من التعريف يعتبر التغيير إطارا للوسائل، والوسائل قد تكون مختلفة ومتنوعة حسبما أشير إلى تنوعها وفق المنهج والأسلوب. كما أنها تعبر عن حراك المجتمع بدرجات متفاوتة من القوة، وبدرجات متفاوتة من المشاركة بين القوى والمؤسسات والنخب والأفراد وغيرها. حراك المجتمع الوارد في التعريف يأتي كرفض للواقع أو لجزئياته سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وفي كافة جوانب الحياة، لتصل القوة الراغبة والقائمة على التغيير إلى الأهداف المحددة مسبقا في الجوانب الخاضعة لعملية التغيير.
وفي إطار أنماط التغيير السياسي تبرز رؤي “هنتنجتون” و”وليم ميتشل” حول “التغيير بالمكونات”، وكتابات “ألموند” و”روستو” حول “التغيير بالأزمات”، وكتابات “برنر” و”بريور” حول التغيير المعقد”، هذا بجانب كتابات ماركس عن “التغيير الثوري”.
أولاً: التغيير بالمكونات:
اهتم المفكر الأمريكي صمويل هنتنجتون (أحد أهم منظري التحديث والتغيير السياسي في القرن العشرين) بالعلاقة بين المشاركة السياسية والمؤسسية السياسية والتحديث السياسي. ويري أن التحديث قد يكون أحد المصادر التاريخية الكبرى للتغييرات فى المشاركة، لكنه ليس المصدر الوحيد. ومشكلة التوازن بين المشاركة والمؤسسية هى مشكلة تشهدها المجتمعات عند كل مستويات التنمية. فالاضطرابات التى شارك فيها الزنوج والطلاب فى الولايات المتحدة فى أواخر الستينيات من القرن العشرين كان من الممكن تحليلها بشكل مثمر خلال هذا الإطار، ففى المدن الرئيسية وفى الجامعات واجهت البنية والمؤسسات القائمة تحديات كبيرة، وأفرزت قنوات جديدة لكى تستطيع الجماعات الجديدة أن تشارك فى اتخاذ القرارات التى تؤثر فى حياتهم من خلالها.
هذا المقترب النظرى لصمويل هنتنجتون تم توسيعه ليتضمن متغييرات أكثر عدداً وتنوعاً، وهو ما قام به المفكر “وليم ميتشل”، فالخطوة الأولى فى تحليل التغيير السياسى، كما حددها وليم متشل هى تحديد “الأغراض” أو “المكونات” التى يتناولها التغيير.
وتحديد ماذا تكون (أو ماذا ربما تكون) مكونات النظام السياسى، ثم بعد ذلك ما هى العلاقات التى تحملها التغييرات (إن وجدت أصلاً).
ويري ميتشل أن النظام السياسى يمكن أن تناوله باعتباره تجميعا لمكونات عديدة كلها آخذة فى التغيير، بعضها بمعدلات سريعة، والبعض الآخر بمعدلات أبطأ. وهنا يمكن القول بأن دراسة التغيير السياسى تتضمن التركيز على ما يبدو أنه مكونات رئيسية للنظام السياسى، وتحديد معدل ونطاق واتجاه التغيير فى هذه المكونات، وتحليل العلاقات بين التغييرات فى أحد المكونات والتغييرات فى المكونات الأخرى.
فالنظام ينظر إليه على أنه يتضمن مكونات عديدة، من بينها: الثقافة، والمؤسسات، والجماعات، والقيادة، والسياسات. ودراسة التغيير السياسى بشكل مثمر يمكن أن تبدأ بتحليل التغييرات فى هذه المكونات، والعلاقة بين التغيير فى أحد هذه المكونات، والتغيير فى المكونات الأخرى.
والتغيير فى القوة هو أحد أنماط التغيير ذات الصلة بالظاهرة السياسية، ويعتقد البعض أن التغيير فى القوة ينبغى أن يكون هو التغيير الوحيد الذى يجدر به أن يصبح موضع اهتمام المحلل السياسى، والتركيز على القوة وحدها هو نتيجة لتبنى تعريف معين للسياسة.
ومن ناحية ثانية يري ميتشل، إن تحليل التغيير السياسى قد يكون موجهاً إلى التغييرات البسيطة فى قوة المكونات والعناصر التى يتشكل منها النظام السياسى. لكن الأكثر أهمية هو العلاقة بين التغييرات فى قوة الأفراد المكونين للنظام، وفي المكونات والعناصر التى يمثلها الأفراد، وفي مضمونها. وإذا كان التحليل السياسى محدوداً ويقتصر على التغييرات فى القوة، فإنه لن يستطيع أن يوفر فهما شاملاً للأسباب والنتائج.
وفي إطار هذا النمط، نجد أن التغيير السياسى يمكن تحليله وفق ثلاث مستويات: “معدل التغيير” و”نطاق  التغيير” و”اتجاه التغيير”. فالتغيير فى أحد المكونات يمكن مقارنته بمعدل، ونطاق، واتجاه التغيير فى المكونات الأخرى، ومن خلال هذه المقارنات يمكن إلقاء الضوء على أنماط الاستقـرار وعـدم الاستقرار فى النظام السياسى، وعلى المدى الذى وصلت إليه التغييرات فى أحد المكونات استناداً إلى أو نتيجة الارتباط، بالتغيير، أو غياب التغيير، فى المكونات الأخـرى.
النمط الثاني: نمط التغيير بالأزمات:
يفترض الموند وروستو نموذج التغيير بالأزمة كإطار عام لتحليل الديناميات السياسية. ويعتقد الموند بأن النظريات المبكرة للسياسة المقارنة، والتنمية، يمكن تقسيمها وفق بعدين أولهما: إلى أى مدى تتضمن نماذج للتوازن أو نماذج للتنمية؟ ثانيهما: إلى أى مدى تقيم نظريات السياسة المقارنة تنبؤاتها استناداً إلى الحتمية أو الاختيار؟
وقد جاء روستو فى محاولة مناظرة بنموذج مشابه نوعاً لنموذج الموند، حيث يفترض روستو أن التغيير السياسى هو نتاج عدم الرضا عن الموقف القائم، وعدم الرضا يؤدى إلى حركة سياسية. فالحركة السياسية هى فى الواقع نتاج عدم الرضا دائماً. وهذه الحركة قد تفشل وقد تنجح. فإذا ما نجحت فإن التنظيم، أو الحركة، أو الجماعات المسئولة عن النجاح تقوم بتطوير أهداف جديدة تتناسب والوضع الجديد، أما إذا فشلت جهودها من أجل التغيير، فإن الجماعة المسئولة عن هذه الجهود، إما أن تتفكك ويتم حلها، أو تستمر فى متابعة هدفها القديم، مع توقع آخذ فى التناقص باحتمالات تحقيقه.
ويعتقد روستو أن القوى التى شاركت بجهودها فى خلق الحكومة، أو فى الاستحواذ على السلطة من خلال جماعة أو فرد، تختلف تماما عن تلك القوى التى تحافظ على إبقاء الحكومة قائمة على قيد الحياة، أو تحفظ وضع فرد أو جماعة فى السلطة خلال فترة زمنية ممتدة، حتى يتغيير الاتجاه.
ويري روستو أن نظريته في التغيير السياسى يجب أن تأخذ فى اعتبارها هذه الاختلافات وتسبغ عليها طابعاً نظامياً، ويعطي روستو أهمية أولية تؤكد على الاختيارات التى يجب أن تصنعها القيادة السياسية.
النمط الثالث: نمط التغيير المعقد:
فى دراستهما عن الجوانب السياسية للتحديث طور “برنر وبرور” نموذجاً للتغيير المعقد والذى يتضمن 22 متغييراً و20 مقياساً، تم توزيعها على عدة مجموعات فرعية، وذلك على النحو التالي:
المجموعة الأولي: التغيير في القطاعات الريفية والحضرية، ويشمل 10 متغيرات و8 مقاييس.
المجموعة الثانية: التغيير في النظام الديموغرافي، ويشمل: 3 متغيرات و3 مقاييس.
المجموعة الثالثة: التغيير في النظام الاقتصادي، ويشمل: 9 متغيرات و6 مقاييس.
المجموعة الرابعة: التغيير في النظام السياسي، ويشمل: 10 متغيرات و11 مقياساً.
والعلاقة بين هذه المتغيرات (22) والمقاييس (20) تم التعبير عنها في 12 معادلة مشتقة من النظريات العامة للتحديث، ويتضمن النموذج المتغيرات التي يمكن أن تتأثر مباشرة بحركة الحكومة، والمتغيرات التي لا تخضع لمثل هذا التأثير.
وقد حقق مقترب برنر بريور أفاقاً جديدة فى التحليل السياسي حول نظريات وأطر التغيير السياسي، وذلك على المستويين النظري والعملي
المستوي الأول: النظري: يوفر هذا المقترب نموذجاً على درجة عالية من التبسيط، وعلى درجة عالية من الدقة، للنظام السياسي، حيث يتسع ليشمل عدداً مهماً من المتغيرات الاقتصادية والسياسية والديموجرافية، ويعمل على تحليل أنماط التفاعلات والعلاقات فيما بينها.
المستوي الثاني: العملي: يشير المقترب إلى معالجة عملية فى اتجاه يجعل من الممكن أن يوفر لصانعى السياسات القدرات التحليلية العملية ويزودهم بوسائل تحليل النتائج المحتملة حتى تكون ملائمة بشكل مباشر لأغراضهم.
النمط الرابع: التغيير الثوري:
عرف جونسون التغيير الثوري “بأنه نمط خاص للتغيير الاجتماعي، لأنه يستلزم إدخال العنف في العلاقات الاجتماعية”. ويمكن تحديد أبعاد التغيير الثوري على النحو الآتي: تغيير البنية الاجتماعية، وتغيير القيم ومعتقدات المجتمع، وتغيير المؤسسات، وتغيير في تكوين القيادة وأساسها الطبقي، وتغيير النظام القانوني، واستخدام العنف في الأحداث التي تؤدي إلى تغيير النظام.
ويكشف هذا التحديد عن أبعاد التغيير الثوري من نقطة هامة هي أن التغيير الثوري لا يقتصر على التغيير السياسي، وإنما هو صيغة تبدأ سياسية وتنتهي بأن تكون اجتماعيه فتحدث تغييرات كمية ونوعية في النظام الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، إلا أن العنصر المميز للتغيير الثوري هو الاعتماد على العنف.
فالثورة في أحد تعريفاتها هي “نشاط إنساني يقترن بمشروع جماعي واجتماعي يستهدف تغيير الأوضاع الاجتماعية القائمة تغييراً نوعياً ممتداً نحو المستقبل”. والثورة بوصفها مشروعاً جماعياً واجتماعياً يمثل محاولة من أجل تقديم فهم أعمق للثورة، وقد أكد ماركس على أهمية المشروع بالنسبة للثورة من خلال تأكيده على أهمية الأيديولوجية الاشتراكية بالنسبة للثورة، والهدف النهائي الذي يقترن به المشروع الثوري هو ليس إحداث نتائج سياسية فحسب بل نتائج اجتماعية تتمثل في تغيير العلاقات الاجتماعية.
وأياً كانت نمط التغيير، يبقي جوهره ثابتاً، كما أكدت عليه كثير من المؤلفات والاتجاهات، أنه حالات التحول التي يخوضها المجتمع للانتقال إلى أوضاع أفضل تمكنه من الانطلاق إلى المستقبل. حالات يخرج منها المجتمع أكثر إيجابية وفاعلية وقوة وقدرة على إدارة شئونه، وعلى محاسبة قيادته، سواء مكافئتها ومعاقبتها، وعلى التصدي لمحاولات كبته أو قهره أو النيل من حقوقه ومقدراته وانتهاك حرياته وحرماته.

________________________

*باحث مصري في العلوم السياسية 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه