التعديلات الدستورية التركية: بعيداً عن أردوغان

الرئيس التركي طيب أردوغان
الرئيس التركي طيب أردوغان

الحديث عن الرمزية الحالية لمنصب رئيس الجمهورية في تركيا، حديث غير دقيق، ناتج في معظمه عن عدم اطلاع على الدستور الحالي

أكثر الكتابات التي انطلقت تهاجم التعديلات الدستورية في تركيا، المزمع إجراء استفتاء بشأنها في السادس عشر من أبريل/نيسان الجاري، وخاصة في الصحافة ووسائل الإعلام العربية، ركزت على فكرة سعي الرئيس رجب طيب أردوغان إلى توسيع سلطاته، ومن ثم القبض على مفاصل الدولة التركية وتركيز السلطات في يده، لبناء ديكتاتورية يكون هو عنوانها ومتنها وجميع تفاصيلها.

المفارقة أن أكثر المرددين لهذه الفكرة في عالمنا العربي هم من المعروفين بدفاعهم المستميت عن الديكتاتوريات العربية، وبقيادتهم قاطرة الثورات المضادة إعلاما وتسويقا.

ويتطلب النفاذ إلى الأسباب الحقيقية، الكامنة وراء سعي الرئاسة والحكومة إلى هذه التعديلات، معرفة صلاحيات الرئيس وفق الدستور التركي، وأبرز معالم التجربة البرلمانية منذ تأسيس الجمهورية عام ١٩٢٣.

هل أردوغان رئيس من دون صلاحيات؟

الحديث عن الرمزية الحالية لمنصب رئيس الجمهورية في تركيا، حديث غير دقيق ، ناتج في معظمه عن عدم اطلاع على الدستور الحالي، الذي تمت صياغته عام ١٩٨٢ عقب انقلاب سبتمبر/أيلول ١٩٨٠ .

ووفق المادة ١٠٤ من الدستور، فإن من مهام وواجبات رئيس الجمهورية دعوة الجمعية الوطنية الكبرى (البرلمان) للانعقاد عند الاقتضاء، وإصدار القوانين، وإعادة مشروعات القوانين إلى البرلمان لإعادة النظر فيها، وطرح مشروعات القوانين المتعلقة بتعديل الدستور على الاستفتاء إذا رأى ضرورة في ذلك، وتقديم الالتماسات إلى المحكمة الدستورية لطلب إبطال القوانين أو المراسيم التي لها قوة.

القانون أو النظام الداخلي للبرلمان، أو أحكام معينة منها، بسبب عدم دستوريتها شكلاً أو مضموناً . أي أنه بكل بساطة يمكنه إبطال تشريعات برلمانية عن طريق المحكمة.

كما أن رئيس الجمهورية من واجبه، تعيين رئيس الوزراء وقبول استقالته وإقالة مجلس الوزراء، وتعيين الوزراء وإقالتهم بناءً على اقتراح رئيس الوزراء، ورغم شكلية هذه الجزئية لأن الحكومة تشكل من الحزب صاحب الأغلبية وبعد حصولها على الثقة في البرلمان، فإنها تعكس رغبة واضعي الدستور، في جعل الرئيس صاحب القرار الأخير.

كما يحق للرئيس رئاسة مجلس الوزراء ، أو دعوته للانعقاد برئاسته كلما رأى ضرورة في ذلك، وكذلك إعلان الأحكام العرفية أو حالة الطوارئ، وإصدار المراسيم التي لها قوة القانون، وفقاً لقرارات مجلس الوزراء الصادرة برئاسته أي رئاسة الرئيس.

كما أن الدستور الحالي ووفقاً للمادة ذاتها منح الرئيس الحق في تعيين أعضاء المحكمة الدستورية، وربع أعضاء مجلس الدولة، والمدعي العام الرئيس لمحكمة الاستئناف العليا ونائبه، وأعضاء محكمة الاستئناف العسكرية العليا، وأعضاء المحكمة الإدارية العسكرية العليا، وأعضاء المجلس الأعلى للقضاة والمدعين؛ واختيار قضاة المحكمة الإدارية ،واختيار قضاة المحكمة الدستورية .

إلى غير ذلك من السلطات الممنوحة له والتي ينتفي معها مقولة رمزية منصب الرئيس في النظام السياسي التركي، في مقابل ذلك، لا يمكن مساءلة أو محاسبته إلا بتهمة الخيانة العظمى ( المادة ١٠٥)  .

هذه الواجبات الممنوحة للرئيس، يضاف إليها تأليف حزب العدالة والتنمية للوزارة، تجعل من أردوغان الشخصية المركزية في الدولة، والتي لا تحتاج إلى مزيد من السلطات عبر مخاطرة الاستفتاء الشعبي، الذي يصعب التكهن بنتيجته حتى الآن.

كما أن الحديث عن سعي أردوغان للتعديلات الدستورية، من أجل البقاء في الحكم حتى العام ٢٠٢٩، بعد ترشحه لفترتين جديدتين مدتهما عشر سنوات تبدأ من ٢٠١٩ عام بدء العمل بالتعديلات حال إقرارها شعبياً، حديث تنقصه الدقة، لأن أردوغان وفق النظام الحالي ستنتهي فترة رئاسته الحالية عام ٢٠١٩، ويمكنه الترشح لفترة ثانية فقط وإذا فاز بها يظل في منصبه إلى العام ٢٠٢٤ .

إذن فإن التحليل الصائب لهذه التعديلات يجب أن يتم بعيداً عن شخصية أردوغان، وإنما وفق قراءة تاريخية وحالية للنظام السياسي .

التعديلات الدستورية إلحاح الماضي والحاضر

هناك عدة سمات ميزت التاريخ السياسي لتركيا، منذ تأسيس الجمهورية، وأرى أنها لعبت دوراً مهماً في دفع أردوغان إلى الإصرار على تغيير بوصلة الحكم من البرلماني صوب الرئاسي، وأهم هذه السمات:

  • منذ إقرار التعددية الحزبية عام ١٩٤٥ على يد عصمت إينونو، وحتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام ٢٠٠٢، لم تعرف تركيا حكومة مستقرة، نتيجة فشل الأحزاب في الحصول على الأغلبية التي تؤهلها للحكم منفردة، إلا على فترات متباعدة، أبرزها تشكيل الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس للحكومة منفرداً من مايو/آيار ١٩٥٠ إلى مايو/آيار  ١٩٦٠ ، وحزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل من أكتوبر ١٩٦٥ إلى مارس ١٩٧١ ، وحزب الوطن الأم بقيادة تورجوت أوزال من أكتوبر/تشرين الأول ١٩٨٣ إلى نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٩١ ، وأخيراً حزب العدالة والتنمية من العام ٢٠٠٢ وحتى الآن، وما عدا ذلك فقد سقطت البلاد رهينة للحكومات الائتلافية التي كانت سرعان ما تنهار ، بمتوسط حوالي حكومة جديدة كل ١٧ شهراً فقط!! ، بل إن الحكومة الائتلافية التي شكلها حزب العدالة بزعامة سليمان ديميرل بالاشتراك مع حزب السلامة الوطني والحزب القومي عقب انتخابات يونيو/حزيران ١٩٧٧ لم تستمر إلا ستة أشهر فقط وانهارت في ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته. هذه الانهيارات الحكومية المتتالية، انسحب تأثيرها بطبيعة الحال على المجال الاقتصادي والاجتماعي والخدمي … إلخ حتى وصلت تركيا إلى ما يشبه الانهيار التام مع بدايات الألفية الحالية.
  • رغم ظهور أحزاب قوية، استطاعت الارتكاز على قاعدة جماهيرية عريضة، مثل الحزب الديمقراطي، والوطن الأم، والرفاه بطبعاته المختلفة، فإنها انهارت برحيل مؤسسها، أو انفصاله عنها، كما حدث في تجربة حزب الوطن الأم الذي فارقه مؤسسه تورغوت أوزال عندما تولى منصب الرئاسة ( ١٩٨٧-١٩٨٩) ، فلم يستطع الحزب الحفاظ على الأغلبية سوى لدورة واحدة فقط، حيث حل ثانياً في انتخابات نوفمبر/ تشرين الأول ١٩٩١ بنسبة ٢٥.٥٪، أما حزب الرفاة فقد دب الضعف إلى أنحائه بغياب نجم الدين أربكان عن الساحة نتيجة الحظر الذي فُرِضَ بحقه عقب انقلاب فبراير/شباط ١٩٩٧، وانتهى الأمر الآن بحزب السعادة (الطبعة الأحدث من الرفاة ) إلى حال من الضعف فشل معها في الحصول على نسبة ١٠٪ التي تؤهله لدخول البرلمان، وحزب العدالة والتنمية ليس بمعزل عن مصير تلك الأحزاب خاصة حال غياب مؤسسه أردوغان، الذي لولا وجوده لكان من الممكن أن نرى أحزاباً جديدة خرجت من رحم العدالة والتنمية، مع ترك كل من عبد الله غول، وأحمد داود أوغلو لمنصبيهما .
  • في ظل النظام البرلماني شهدت تركيا خمسة انقلابات عسكرية ( ١٩٦٠-١٩٧١-١٩٨٠-١٩٩٧-٢٠١٦) ، وتم سجن العديد من الزعماء السياسيين ( ديميرل – أربكان – أجاويدـ أردوغان – ألب أرسلان توركيش ) وإعدام بعضهم ( مندريس ورفيقيه: فطين رشدي زورلو، حسن بولاتكان). كما تم حظر العديد من الأحزاب خاصة ذات التوجه الإسلامي ، وتم منع النائبة مروة قاوقجي من الدخول إلى البرلمان بسبب حجابها ، وأجبرت على ترك البلاد وتم سحب الجنسية التركية منها ، في سلسلة طويلة من الإجراءات التي تبرهن أن الديمقراطية في ظل النظام البرلماني كانت ديمقراطية منقوصة بسبب تحكم العسكر في الحياة السياسية من خلف ستار ، وتسخير أدوات الدولة العميقة لضبط الأداء ومنع الخروج عن النص الذي وضعته المؤسسة العسكرية وتعاملت بمنتهى الخشونة مع كل من يفكر في الخروج عنه. ولم يتوقف الأمر إلا بسلسلة من التعديلات الدستورية التي أتمتها حكومة العدالة والتنمية.

وتبقى ملاحظة أخيرة مهمة، إذ سيكون من الخطأ، تقييم التعديلات الدستورية من خلال الحديث المجرد عن مزايا وعيوب كل من النظامين البرلماني والرئاسي، بقدر ما يجب الانطلاق من التاريخ والحاضر، للقول بأننا أمام نظام سياسي يحتاج – دونما شك – إلى إصلاح، لضمان عدم تكرار مآسي الماضي.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه