التاريخ في زنزانة عباس

(1- ورطة التاريخ)

بأمر مباشر من طبيب الفلاسفة، اعتقل (اللواء مُسَرِّب) عباس كامل رجلا عجوزاً بلحية بيضاء طويلة يدعى «التاريخ»، وطلب منه تسليم الكلمات التي دونها عن حاكم المعجزات عبد الفتاح بن سعيد بن حسين بن خليل السيسي، رد الرجل: سيسي مين؟.. ده تلاقوه في كتابات غادة أشكيف ومكرم أحمد، فوجيء الشيخ الوقور بصفعة غاشمة أوقعته أرضاً، تلاها تهديد ووعيد بأن يلقى مصير «ريجيني» إذا لم يكشف عن السطور التي دونها عن البطل الذي حمل كفنه على قفا عباس، واستجاب لدعوة الشعب المسكين فتحمل المصاعب والويلات من أجل نشر الإرهاب وتمرير «صفقة القرون»، وبينما كان التاريخ مطروحاً على وجهه في أرض الزنزانة سمع فحيحاً ثعبانياً يقول: والله والله والله ما هسيبك.. أبقى عارف انك بتكتب عني من غير ما ترجع لأشرف الخولي وأسيبك تعدي كده؟!.. لأه، دا أنا أحجبك.. أشيلك من على وش الأرض، أبقى عارف إنك بتاع التسريبات واسيبك؟، أنا داخل على انتخابات ما حصلتش.. معجزة من معجزاتي، ولابد أعرف ماذا ستكتب عنها؟. شعر التاريخ بقليل من الارتياح عندما عرف أن المطلوب هو مدوناته عن الانتخابات فقط، وليس عن مصائب الثعبان الفحاح وعهده، وقال بتخابث ظاهره الطاعة: أمهلوني قليلاً لأستعيد ما كتبته عن انتخاباتكم، لأنني فقدت سجلاتي أثناء هجوم «شرنوخ» على داري واختطافي.

(2- المدائح الانتخابية)

جلس التاريخ في زنزانته يفكر في الخروج من الورطة، ويسعى لتجنب المصير الذي يعرف أن آلاف الناس قد عانوا منه في «زمن الثعبان» ما بين حبس وتعذيب وإخفاء قسري واغتيال، بسرعة توصل التاريخ إلى حيلة استخدام الرمزية وتداخل الأزمنة والنصوص المتوازية، فأنشأ يقول: نجح «العباسيون» حكام جمهورية «نور عينينا» في اختراع أول انتخابات بلا ناخبين، تلك التي جرت في رئاسة عام 2014، ثم في الانتخابات البرلمانية التي أعقبتها، والتي هامت وذابت «في حب مصر» فأنجبت مجلس «العال»، وهو ما عده الخبراء الاستراتيجيون إنجازاً وإعجازاً يدخل في صميم خطة التحول من الميم إلى الدال، وهي الخطة السرية التي اخترعها «طبيب الفلاسفة.. رجل الماء» لتحويل مصر من «أم الدنيا» إلى «أد الدنيا»، ولا مجال للشك في أن تلك الانتخابات كانت سبقاً دولياً أعاد للأذهان معجزة حفر قناة السويس السيسية، حيث تمكن النظام العباسي من إجراء أول انتخابات «ع الناشف» بأقل القليل من الناخبين، ثم تطورت «النظرية السيسوعباسية» لتتجاوز الخيال العلمي، حتى صارت مصر أول دولة تطبق الديموقراطية الأحادية تحت شعار «مش هسمح لحد يقرب من الكرسي ده»، وتجري انتخاباتها بلا مرشحين.

(3- احتياط واجب)

خشي التاريخ أن يفهم الأغبياء تلميحاته، فكتب موضحاً: الكتابة عن معجزة «الانتخابات على الناشف» ليست سخرية من ضعف إقبال الناخبين منذ تولي السيسي الحكم، ولا من غياب المرشحين المنافسين له، لكنها على سبيل إعطاء الحق لصاحبه، فالحاكم المعجزة لا يمكن أن يترك مصيره لاختيار شعب «فقير أوي”، ولا يمكن أن يرضى بمنافسين، لأن أهم صفة في الحاكم المعجزة أن يختار هو شعبه، وأن يهزم منافسيه قبل المباراة، ولا يسمح لهم بخوضها، وإذا اعتبر بعض الناس من أهل الشر، أن الكتابة عن ذلك سخرية، فلا بأس فالسخرية لعبة حلوة لتهدئة الشباب، خاصة لما «القافية تحكم»… وهي بالفعل تحكم.

(4- رجعتني الذكريات)

مع اعتماد أسلوب التصنيع والميكنة و«الحفر ع الناشف» بديلاً للأساليب القديمة في انتخابات مبارك وأسلافه، تدنت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأولى للسيسي، فمدت اللجنة المشرفة التصويت يوماً للحصول على «الكوتة» المطلوبة، وفي الانتخابات البرلمانية القيصرية التي ولدت مشوهة بعد تعثر، قال أحد الشعراء: من حفر 3.5% لأخيه، وقع فيها، بينما توالت الإعلانات التجارية مجاملة من فضائيات المال المُستغِلة: أعصرها، وطلع الناخب اللي جواك (وكان المقصود طبعا الليمونة)، يومها أكد وزير الزند العباسي أن الهيئة الوطنية للانتخابات اشترطت عدم حضور الناخبين لأن «نزيهة» بتتكسف، وأوضح الحاجب مكرم أحمد أن الشعب لم يمتنع عن المشاركة في مباراة الانتخابات بمزاجه.. لأن الشعب أصلا موقوف، وصرح “وزير العسس” إن الانتخابات السيساوية أثبتت اقتناع جميع فئات الشعب بعظمة قانون منع التظاهر والتجمهر، مشدداً على أن الداخلية سوف تتعامل بحزم مع القلة المنحرفة التي خرجت للتصويت، واتصل اللواء سامح الطرابلسي على مسؤولية أحمد موسى وقال بغضب: الشعب المصري شعب جاحد، رَفَعَ الدعم عن النظام المنقذ و”مش عاوز يتقمع وهو ساكت”، عندها علق شاب من المقاطعين ضاحكاً وهو يراقب المشهد في تليفزيون المقهى: إن هذا الرئيس لم يجد من يحنو عليه.

(5- مانشيتات الصحف الأجنبية)

كانت الرسالة واضحة أمام العالم، وحازت الانتخابات الخالية من الناخبين على اهتمام الصحف، وجاءت العناوين على طريقة: الناخبون المصريون يرتاحون في البيوت و”الدولة العباسية” توفر لهم خدمة الاقتراع بلا حضور ولا تصويت، والشارع المقموع يطلب تفويضاً لمواجهة الرئيس “غير المحتمل”، بينما تظهر على الشاشات المحلية مذيعة عباسية، فتبتسم بتصنع وهي تزف الخبر لكائنات “حزب الكنبة”: في حفل «عائلي» بهيج تمت «شبكة» الاستحقاق الثالث ونظام «نور عينينا»، ويذكر أن الاستحقاق الثالث هو آخر العنقود في أبناء خريطة المستقبل، وقد أدت «الضرورة» إلى عدم حضور المعازيم حتى من أهل العروسين، ونظرا لنجاح التجربة فقد تقرر تعميمها في كل انتخابات تالية بتحديث أكبر.

(6- تصريحات النصر)

في تحليل لتجربة الانتخابات على الناشف، أكد خبير استراتيجي من كرتونة دعم الدولة إن ما حدث (وما سوف يحدث) شيء طبيعي، ويتطابق مع الدستور، لأن الشعب من حقه أن يختار “ألا يختار”

(7- صوت خارج الصندوق)

فتاة في مقتبل العمر، تجلس في شرفة مطلة على سماء ملبدة بالغيوم، ثم تنظر خلفها على جدار غرفتها، وتبتسم لصورة شقيقها الشهيد في أثناء ثورة يناير، وتقول بصوت مسموع: حقك مش ها ييجي بانتخابات.. خلاص كفاية تـــ…

كفاية تمثيل

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه