التاريخ الفرعوني لصحافة “التطبيل” في مصر

إن من “طبلوا” للرئيس عبدالفتاح السيسي منذ وقت قريب، هم أنفسهم الذين كانوا “يطبلون” قبله مع الإخوان ضد الدكتور محمد البرادعي، والآن يهاجمون البرادعي والإخوان.

 

عبده مغربي*
حظيت الصحافة والإعلام بأهمية استثنائية عند مصر والمصريين منذ فجر التاريخ، ومنذ فجر التاريخ  أيضاً كانت الصحافة والإعلام هي شغل الحكام في مصر علي مر العصور، وكانت جدران المعابد والمقابر الفرعونية هي تجسيد حي لصحافة الحائط، مثلما كانت أوراق البردي تجسيداً حياً أيضاً للصحافة الورقية، وكانت صحافة المصري القديم هي الأقوي علي مدار التاريخ  وحتي وقت قريب في الحفاظ علي المعلومات وتداولها سواء بين الحاكم والمحكومين من جهة أو بين جيل والأجيال المتعاقبة من جهة أخري.

فمنذ ما يزيد علي 7 آلاف عام وحتي وقت قريب، ما تزال الصحافة المصرية حاضرة في البنيان المعلوماتي للبشرية، وهي علي هذه الحال من الأهمية، كانت أيضاً وما تزال السلاح البتار الذي يخصم ويضيف من وإلى منجزات أي نظام حكم علي مدار التاريخ المصري. استخدمتها الملكة “حتشبسوت” في الإشادة بفترة حكمها وتوثيقها، ونقشت علي معبدها أهم منجزاتها، حتي جاء من بعدها ابن زوجها “تحتمس الثالث” الذي ما إن استلم الحكم حتي طمس هذه المنجزات عندما كلف رجالة بإزالة هذه النقوش ومحو مجدها من علي هذه الجدران، غير أن التاريخ أبى إلا أن يحفظ لنا حكايتها في بعضٍ من آثارٍ أخري كانت مخفية لم تصلها أيادي الطمس التابعة لنظام “تحتمس الثالث”.

ومن أهم الحكام المصريين الذين اهتموا أكثر من غيرهم بالصحافة الحائطية الملك المصري “رمسيس الثاني”، أو “رمسيس العظيم” كما كان يحب ان بٌلقب، ويقول خبراء آثار أنه كان مولع بالإشادة بنظام حكمه، وبمنجزاته، وشهدت جدران معبد “الأقصر” الكثير من عبارات الفخر والمباهاة بفترة حكم هذا الفرعون القديم، وقيل إنه كان يحب التباهي ويحرص عليه.

الانقلاب على إخناتون
 وبقيت الصحافة المصرية منذ عهد ما قبل التاريخ، وحتي عصرنا الحالي، في كثير منها وسلية لـ”التطبيل” كما كانت أيضاً وسيلة للتوثيق، يشهد بذلك أيضاً ما فعله القائد العسكري “حور محب” الذي أشرف بنفسه علي إتلاف بيانات ومعلومات نظام حكم “إخناتون” بالرغم من أن هذا النظام هو الذي قام بتصعيده، وهذا النظام أيضاً هو الذي عينه قائداً لـ”جيش إخناتون”. 

لقد ساند “حور محب” في انقلابه علي نظام “إخناتون” كهنة من النظام القديم الذين سبق وانقلب عليهم “إخناتون”، استخدم أيضاً إخناتون صحافته الحائطية وبردياته في تسجيل وتوثيق وامتداح  نظام حكمه الذي يدعو إلى دينٍ جديد، إنقلب فيه هو أيضاً علي نظام تعدد الآلهة وأسس لدين الإله الواحد “آتون”  قرص الشمس، فلما وصل “حور محب” إلي السلطة محي وأتلف وأنهي  نظام حكم “إخناتون” دين الإله الواحد “قرص الشمس”، وأعاد نظام تعدد الآلهة، وسجلت جدران “حور محب” إشادات  بإصلاح الإقتصاد الذي تدهور في عصر دولة “إخناتون”  الدينية، كما أشادت بإعادته هيبة الدولة ومكانتها.

 صحافة التطبيل لـ “حور محب” قادها وتولاها كهنة الأديان القديمة التي تجمعت كلها لدعم “انقلاب” حور محب علي نظام حكم “إخناتون” نعم سجلت صحافة نظام “حور محب” إنجازات عصره، لكنها وهي علي هذه الحال، دمرت، وأتلفت كل بيانات نظام حكم دولة ” إخناتون”، ولو ترك “حور محب” هامش حرية لاتباع ” إخناتون” في التعبير عن أرائهم لرأينا ربما جداريات تحكي مسالب الإصلاح الاقتصادي الذي أسس له حور محب، ولربما رأينا أيضاً جداريات تحكي بطش رجال الأمن بالمواطنين، فما تسميه “صحافة التطبيل” هيبة الدولة، يمكن أن تعتبره صحافة الرأي الآخر قمع وكبت للحريات.

الصوت الواحد
علي الرغم من استفحال صحافة “التطبيل” وهيمنتها إلا أنها لم تستطع محو تاريخ ” حتشبسوت” وخرجت لنا قصتها في من علي جداريات أخري، غير التي دمرها ابن زوجها “تحتمس الثالث”، تماماَ مثلما عرفنا بأخبار نظام حكم “إخناتون” برغم  كل الإتلافات التي قام بها نظام” حور محب”، صحافة الصوت الواحد مهما استمرت وتعاقبت، فإن التاريخ لا يمكن إلا أن يقول كلمته، صحافة “التطبيل” مهما امتدت ومهما تواصلت.

فإن”التطبيل” للرئيس عبد الناصر وهيمنة نظامه وأتباعه ومريديه علي وسائل الإعلام، ومحوهم لمميزات حكم الملك فاروق، وتركيزهم فقط علي مسالب حكمه، فشل في مواصلة التعتيم والتضليل مع أول فرصة لإعادة إحياء كتابات تم طمسها وتغييبها عمداُ وعرفنا منها بعد أمدٍ طويل بأن النظام الملكي لم يكن سيئاً في مجمله، كان به من الروائع التي طمسها إعلام الصوت الواحد مثل التعددية والديمقراطية ما به من مسالب الإقطاع وفساد الحاشية.

صحافة “الصوت الواحد” التي أسس لها الفراعنة أو “التطبيل” وفق مفهومها الشعبي المعاصر،عجزت علي مدار التاريخ أن تمحو الحقيقة مهما طغت قوة “التطبيل” وسيطرت، فـ”التطبيل” للرئيس”المؤمن” محمد أنور السادات جعل حتفه علي يد هؤلاء “المؤمنين” الذين أيدهم ودعّمهم للقضاء علي الشيوعيين والناصريين بعد أن انقلب عليهم وانقلبوا عليه، و”التطبيل” الذي دفع مبارك إلي قولته الشهيرة: “خليهم يتسلوا” أغرقه في بئر الثقة بعد أيام قليلة من سخريته بها، وجاء بعده من محي كل منجز أنجزه كما أنه لم يفعل حسنة في تاريخه، حتي تلك التي كانت له في حرب أكتوبر73 أنكروها، شرب من نفس الكأس التي أسقي منها قائده الفريق سعد الشاذلي في ذات الحرب.  ومثلما رفعت صحافة مبارك سعد الشاذلي من صورة غرفة عمليات حرب أكتوبر، جاء القدر لكي يرفع إسم مبارك من محطة مترو الأنفاق أسفل ميدان رمسيس، ويرفعه من كل بنيانٍ وُضِع عليه اسمه في مصر.

 إنه مهما طغي “التطبيل” وتجبر حتماً سيُخرج التاريخ من جعبته ما عمدت صحافة “التطبيل” طمسه، طال الزمن أو قصر، صحافة “التطبيل” التي كانت “تطبل” لـ”أحمد شفيق” هي التي تسن أسنانها الأن لتقطيعه، كذلك التي كانت “تطبل” للفريق سامي عنان، تستعد الآن لتجريسُه، وفي كل الأحوال سواء كان “التطبيل” موجهاً مع أو ضد فإنه حتماً سيخرج التاريخ ليقول قولته الأخيرة:
 إن من “طبلوا” للرئيس عبدالفتاح السيسي منذ وقت قريب،هم أنفسهم الذين كانوا “يطبلون” قبله مع الإخوان ضد الدكتور محمد البرادعي، والآن يهاجمون البرادعي والإخوان.

_______________

*كاتب وصحفي مصري 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه