الانتخابات التركية المبكرة حسابات الداخل والخارج

في كلمته أمام الكتلة النيابية لحزبه فجَّر دولت بهتشلي، رئيس حزب الحركة القومية المعارض MHP مفاجأة من العيار الثقيل إذ طالب بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في أغسطس/آب المقبل بدلا من الانتظار إلى نوفمبر/تشرين الثاني من العام المقبل، وأرجع ذلك إلى مواجهة الأخطار التي تتهدد الدولة التركية داخليا وخارجيا.

الدعوة تجاوب معها الرئيس رجب طيب أردوغان وسارع إلى عقد لقاء مع بهتشلي في اليوم التالي بالمجمع الرئاسي بأنقرة، ليخرج بعدها أردوغان في مؤتمر صحفي مقتضب يعلن موافقته على إجراء انتخابات مبكرة لكن في الرابع والعشرين من يونيو/حزيران القادم بدلا من أغسطس/آب، ليخلط الأوراق داخل تركيا وخارجها، ويضع الأتراك على مشارف صيف ساخن.

التأكيدات الحكومية السابقة بعدم وجود نية في إجراء انتخابات مبكرة يبدو أنها كانت جزءا من خطة خداع استراتيجي ليس للمعارضة داخل تركيا فقط، بل لأطراف إقليمية ودولية كانت تستعد لإلقاء ثقلها في المعركة الانتخابية عبر تدابير عدة تضمن خلالها الإطاحة برجب طيب أردوغان على الأقل في هذه المرحلة والذي بات يمثل نموذجا متمرداً على النظام الدولي وقواعد اللعبة التي وضعها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. 
ولم تكن دعوة أردوغان المتكررة لإصلاح نظام مجلس الأمن عبر شعاره “العالم أكبر من خمسة” إلا وجها من أوجه هذا التمرد إضافة إلى تحركاته الأحادية في الملف السوري والقبرصي وبحر إيجه وغيرها على نحو يجعلنا نؤكد أن قرار الانتخابات المبكرة نبع من حسابات داخلية وخارجية معقدة.

الداخل التركي..إزالة الغموض وطمأنة الاقتصاد

رغم أن تركيا لا تزال حتى الساعة تسير وفق النظام البرلماني، حتى موعد الانتخابات القادمة إذ ستتحول البلاد إلى النظام الرئاسي وفق التعديلات الدستورية التي منحها الشعب التركي موافقته في أبريل/ نيسان من العام الماضي، إلا أن نظام الحكم السائد في البلاد واقعيا – ليس من زمن التعديلات بل منذ وصول أردوغان إلى منصب الرئاسة عام ٢٠١٤- هو النظام الرئاسي.
وباتت هناك حاجة ماسة إلى إعادة ترتيب الدولة التركية وفق التعديلات الأخيرة والقضاء على الازدواجية القائمة، كما أن حالة الترقب القائمة في المشهد السياسي ألقت بظلالها الكثيفة على الاقتصاد التركي، إذ شهدت الليرة التركية تراجعاً كبيرا، ما قفز بسعر الدولار فوق حاجز الأربعة ليرات، الأمر الذي انسحب بدوره على حالة التضخم التي سجلت ارتفاعا ملحوظا أدت إلى  موجة من ارتفاع الأسعار، رغم أن الاقتصاد التركي سجَّل نموا كبيرا العام الفائت وصل إلى نحو ٧.٤٪ ما وضع تركيا في مقدمة الدول الأعلى نموا في مجموعة العشرين الاقتصادية.
كما سجلت الصادرات أرقاما قياسية غير مسبوقة، الأمر الذي فتح الباب أمام نقاش واسع حول الأسباب الحقيقية لتراجع العملة المحلية التي سجلت رابع أسوأ أداء في عملات الأسواق الناشئة، وإذا كانت ثمة أسباب تتعلق بضرورة إجراءات إصلاحات اقتصادية بنيوية هامة، إلا أن الحديث لم يغفل أثر المضاربات المدعومة خارجيا في هذا التراجع، الأمر الذي تحدث عنه أردوغان صراحة قبل أيام ووصفه بالحرب الاقتصادية، مؤكدا أن الشعب التركي سينتصر فيها مثلما انتصر من قبل ليلة محاولة الانقلاب الفاشلة، بل وعلى عكس المعهود فإن ردة فعل الأسواق على قرار الانتخابات المبكرة كان إيجابياً؛ إذ شهدت الليرة بعض التحسن، وانعكس القرار كذلك على أداء البورصة.

أوضاع إقليمية مضطربة فرضت تحديات مُلحة

تحاط تركيا بحلقة من النار سواء من ناحية الشرق حيث الأوضاع السورية والعراقية المضطربة، أو من ناحية الغرب حيث التطورات المتصاعدة في بحر إيجه مع ازدياد التحرشات اليونانية، أو في الجنوب حيث الصراع المتزايد حول غاز شرق البحر المتوسط والتحالف القبرصي المصري الإسرائيلي اليوناني المشترك لمحاولة الاستحواذ على الغاز بعيدا عن تركيا، أو شمالا حيث يعيش البحر الأسود أوضاعا غير مستقرة بسبب الصراع الأمريكي الروسي.

هذه الحلقة النارية فرضت على تركيا تحديات كبيرة أهمها التخلي عن مبدأ صفر المشاكل الذي انتهجته لسنوات، والاتجاه صوب التدخل المباشر في مناطق الصراع حماية لأمنها القومي كما حدث في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون اللتين استهدفتا تنظيمي داعش ووحدات الحماية الكردية، وعملياتها المستمرة في شمالي العراق ضد مواقع حزب العمال في جبال قنديل، والتهديد باجتياح بري لملاحقة عناصر التنظيم في بلدة سنجار شمال غربي العراق ما لم تتحرك حكومة بغداد لتدارك الأمر وإفراغ المدينة من مسلحي التنظيم.

كما شهدت منطقة بحر إيجه وشرق المتوسط نشاطا عسكريا ملحوظاً خلال الفترة الماضية تمثل في منع البحرية التركية سفن التنقيب عن الغاز من مواصلة عملها قبالة السواحل القبرصية، ريثما يتم التوصل إلى اتفاق يراعي الحقوق التركية إضافة إلى حقوق جمهورية شمال قبرص التركية، إضافة إلى بعض المواجهات المحدودة مع الجانب اليوناني، كذلك مثل الإعلان عن تشكيل قوة عربية لتحل محل القوات الأمريكية في سورية عامل ضغط على أنقرة، إذ تشير الأنباء الأولية إلى أن هذه القوة -التي يجري مستشار الأمن القومي جون بولتون اتصالات بشأنها مع عدة عواصم عربية منها القاهرة- سوف تتمركز شرقي الفرات أي في المناطق التي توجد فيها الميليشيات الكردية، ما يعني محاولة توفير حماية لهذه الميليشيات عبر قوات عربية، إذ تبدو الولايات المتحدة مصممة على إنشاء ممر كردي انفصالي شمالي سوريا وهو ما تعتبره تركيا مسألة حياة أو موت بالنسبة إليها.

هذا التوتر الإقليمي المتصاعد شكل حافزا لدى صانع القرار في أنقرة للإسراع في ترتيب البيت من الداخل وفي أسرع وقت ممكن، فكان قرار الانتخابات المبكرة الذي يبدو أنه أحدث إرباكا لدى قوى إقليمية ودولية كانت تستعد لمحاولة التأثير في الانتخابات بعد حوالي عام ونصف العام، ما دفع وزارة الخارجية الأمريكي -في أول رد فعل من جانبها- لتعرب عن قلقها من إجراء الانتخابات في ظل سريان قانون الطوارئ، رغم أن الانتخابات الفرنسية والمصرية تم إجراؤهما في ظل وجود قانون الطوارئ دون أن ينعكس ذلك على واشنطن قلقاً أو خوفاً!!

من هو مرشح المعارضة الذي سيواجه أردوغان؟

وفيما وافقت اللجنة الدستورية في مجلس الأمة التركي على مقترح الانتخابات المبكرة، إذ لم تتبق سوى بعض الإجراءات الشكلية الضرورية، فإن ما ينتظر الشارع التركي معرفته الآن هو اسم المرشح الذي ستدفع به المعارضة في مواجهة أردوغان، خاصة أن أغلب الاتجاهات اليمينية القومية مثل حزب الحركة القومية، وحزب الاتحاد الكبير، أعلنت دعمها لأردوغان.

 أما المعارضة فسوف تتشكل من تحالف حزب الشعب الجمهوري GHP (الأتاتوركي) مع الحزب “الطيب” İYİ  وهو حزب يميني ترأسه ميرال أكشينار التي كانت وزيرة للداخلية في حكومة نجم الدين أربكان عام ١٩٩٦ وشاركت في تأسيس حزب العدالة والتنمية قبل أن تتركه إلى الحركة القومية ثم تنشق عنه لتؤسس حزبها الجديد.
وقد أكدت أكشينار قبل ذلك أنها ستواجه أردوغان في الانتخابات الرئاسية، وقد ينضم إليها حزب السعادة (وريث حزب الرفاة) فستحاول البحث عن شخصية تنتمي إلى التيار المحافظ كما حدث عام ٢٠١٤ عندما دفعت المعارضة حينها بالبروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو في مواجهة أردوغان. وكان إحسان أوغلو قد شغل منصب الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي لسنوات واعتبره البعض حينها مرشح السعودية، لكن الرجل صرح مباشرة عقب إعلان قرار الانتخابات المبكرة بأن صوته سيذهب إلى أردوغان هذه المرة. حزب الشعوب الديمقراطي HDP (حزب قومي كردي) قد يدفع هو الآخر بمرشح له – رغم سجن معظم قياداته بتهمة التعاون مع حزب العمال- وذلك لحرمان أردوغان من جزء مهم من أصوات الأكراد التي لن تذهب بطبيعة الحال لمرشح حزب الشعب الجمهوري.

مأزق آخر قد تواجهه المعارضة يتمثل في سرعة تجهيز القوائم الانتخابية، مع مراعاة عدم تأثيرها على قوائم انتخابات البلدية التي ستقام في مارس/آذار من العام المقبل، وقد تلجأ إليه المعارضة من ترشيح بعض رؤساء البلديات للبرلمان ما يعني استقالتهم من مناصبهم. 

ورغم أن حزب العدالة والتنمية وعقب أول اجتماع له بعد القرار، قال إن أردوغان يحظى بنسبة تأييد شعبي تصل إلى ٥٥٪، إلا أن الانتخابات لن تكون نزهة له بل يتوقع أن تشهد تنافسا حادا في ظل حالة التربص الإقليمية والدولية بتركيا وبأردوغان على وجه الخصوص.    

 

 

       

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه