الاستهبال المشترك ما بين استمارتي «تمرد» و«عشان تبنيها»

نقف مذهولين فاقدي المنطق بل القدرة على الاندهاش والتعجب أمام هؤلاء الذين يعيدون مشهد استمارة “تمرد” مرة أخرى.

انتابتني حالة من الارتباك الذهني في الفترة الأخيرة بعد أن ضربت الأحداث بالمنطق عرض الحائط. فتاه البنيان وضاع أي أساس لأي فكرة أو أي أيدلوجية، وأصبحت الأحداث تهبط من حيث لا يدري المصريون من أين هبطت وما أسبابها أو حتى معرفة ما هي أهدفها ليشكل المشهد الأخير من الصورة شعب يسير في حالة من السكر والتوهان وبلا دليل أو ملامح، تحول النجاح إلى فشل وانقلب الفشل إلى نجاح وأصبح اللص واعظاً، وأحاطت التهم بالواعظ، وأصبح الظالم مظلوماً، ومات المظلوم في السجون، وتحول الشهداء إلى خونة، وانقلب الخونة إلى أبطال.

أهلي وعشيرتي

والغرض يا سادة هو مرض المنطق العضال فعندما قال الرئيس محمد مرسي “أهلي وعشيرتي”، ورغم أنها تعبير أراه غير مقبول من رئيس دولة في القرن الحادي والعشرين، إلا أن أصحاب الأغراض من إعلاميّ الدولة العميقة والمخابرات الممتدة تلقفوا التعبير ونفخوا في معناه وحولوه إلى معنى حرفي كارثي يشير إلى أن الرئيس يحكم لمجموعة مغلقة هم أهله وعشيرته… واليوم عندما وقف “السيسي” قائلا بكل وضوح: “ما نقدرش نهتم بـ100 مليون كويس لكن نقدر نهتم بالمتميزين”، وهو تعبير يشير إلى أن اهتمام الرئيس ينحصر في فئة قليلة هم المتميزون من وجهة نظره، ولا نعرف معيار التميز هنا، ورغم ذلك تجاهل الإعلام الأمر بل نشره وكأنه ميزة منحها المذكور للشعب المصري باستبعاده غالبية المواطنين من دائرة اهتمامه… إنه الغرض الذي أصاب المنطق بالخلل.

لا أنكر أن تاريخ مصر السياسي به الكثير من المتناقضات؛ ولكن كان لكل حدث فيه منطق يستند عليه حتى لو كان واهياً أقرب للذريعة منه إلى السبب.

عندما توحد الشعب المصري لمواجهة الحملة الفرنسية رغم أن العثمانيين كانوا يحكمون بأسوأ أنواع الحكم المستبد، إلا أنه كان مدفوعاً بمنطق عصره، وهو أن الوافد من دين وعقيدة مختلفة وأن نار استعمار دولة مسلمة خير من جنة استعمار دولة غير مسلمة، وبعد الانتصار كانت الصورة المتناقضة فقد حقق الشعب أولوياته وأطاح بالفرنجة وحان الوقت للإطاحة بمندوب المستعمر العثماني، وفعلوها ولكنهم لم يحكموا ونصبوا أجنبيا آخر حكم باسم المستعمر العثماني، وكان منطقهم أنه من أهل الثقة الذين حاربوا معهم وجاهدوا ضد الاستعمار الفرنسي، وأنه يملك من الخبرة ما لا يملكه الزعماء الشعبيون… وفي النهاية دفعوا ثمن موقفهم المتناقض هذا من حرياتهم، إلا أنهم كانوا يستندون على منطق يتسق مع لغة الزمن ومعايير العصر وخبراته.

وقفة عرابي

وقف عرابي متحدياً الخديوي توفيق في ثورة شعبية يحاول المناهضون لحركة الشعوب الآن تشويهها وهو ما يفسر الحملة التي يشنها الآن الطابور الخامس المندس بين المفكرين المصريين، مضمونها أن المشاهد التاريخية لمواجهة عرابي مع الخديوي توفيق كانت مشاهد وهمية وذلك لدعم طبيعة النظام الحاكم المتخاذل الآن، وذلك بعكس النظام الحاكم في الستينيات والذي كان رغم عيوبه في مجال الديمقراطية يحمل راية النهوض الوطني الشعبي في مواجهة الاحتلال والتبعية، لذلك أكد وأنشأ أجياله على أن الثورة العرابية قيمة وطنية مهمة، وبصرف النظر عن مقولات عرابي للخديوي في عابدين والتي يشكك فيها مفكرو التبعية، وتشكل لهم الحبال الذائبة التي يتعلقون بها، إلا أن كل المؤشرات التاريخية تؤكد على أهمية دور أحمد عرابي في وضع أسس للوطنية في التاريخ المصري.

السفارة البريطانية قالت في تقرير لها في أول يونيو/حزيران 1882: “عرابى بك هو في واقع الأمر الحاكم للبلاد وأن كل الأهالي مع عرابى بك منذ عاد إلى السلطة”.

قنصل فرنسا آنذاك قال: “عرابى هو رأس تلك الأمة وأن الخديوي توفيق نكرة ولا وزن له! وأن ما حدث هو حركة وطنية وثورة سلمية”.

حتى اللورد كرومر المندوب السامي للمحتل البريطاني قال إن جنود عرابي كانت قوة وطنية من أبناء تلك الأرض التي تعمل على التخلص من العدو الأجنبي.

يعقوب صنوع الكاتب اليهودي الذي أيد عرابي من خلال مجلته المشهورة “أبو نضارة” قال: “تبين لي أن أفكار جمهور من الوطنيين خلع الأمة للحاكم أعني الخديوي وقومه وجعل مصر حكومة جمهورية تجرى بمقتضى قانون الجمهوريات الحرة وتنتزع عموم الأجانب من دوائر حكومتها وتستمر في إصلاح شؤونها إننا نرى المصريين اليوم يجمعهم قول واحد وهو خلع الخديوي الحالي”.

بعد الاحتلال

ربما انفض المصريون عن الخديوي بعد الاحتلال البريطاني وتحت وطأة إرهاب الخديوي توفيق الخائن والمعتقلات والسجون وانتهازية البعض، بالإضافة إلى السبب الأكبر هو اعتبار الخليفة العثماني “عرابي” خارجا علي الخلافة الإسلامية، وهو ما كان له بالغ الآثار السيئة داخل نفوس المصريين البسطاء، والذين لم يفرقوا بين مفهوم الخلافة الإسلامية والاحتلال العثماني… ما علينا… هذا التناقض أيضا في موقف الشعب المصري من عرابي كان له ما يبرره بلغة زمنه.

عندما تبني الحكم الناصري فكرة الاشتراكية وتطبيق سياسة القطاع العام ووضع حدوداً للاحتكار وتمركز رأس المال التف حوله الشعب مهللا، وعندما مات عبد الناصر وانتقل أنور السادات إلى سياسة مناقضة تماما التف حوله الشعب أيضاً… هذا التناقض أيضا في موقف الشعب المصري له ما يبرره فلم يذق بسطاء المصريين حلاوة ثمار السياسة الناصرية بالقدر الذي التهمت به الطبقات المحيطة بالحكام ومراكز القوة هذه الثمار.

وتولى السيسي

في عام 2013 تأسس الانقلاب على الرئيس محمد مرسي بعد عام واحد من حكمه على عدة بنود تم اختزالها في حركة تمرد المخابراتية وهي نصا كالآتي:

* استمارة سحب الثقة من محمد مرسي عيسي العياط

•        عشان الأمن لسه مرجعش… مش عاوزينك

•        عشان لسه الفقير مالوش مكان… مش عاوزينك

•        عشان لسه بنشحت من بره… مش عاوزينك

•        عشان حق الشهداء لسهمجاش… مش عاوزينك

•        عشان مفيش كرامة ليا ولبلدي… مش عاوزينك

•        عشان الاقتصاد أنهار وبقي قايم علي الشحاته… مش عاوزينك

•        عشان لسه مصر تابع للأمريكان… مش عاوزينك

وتولى عبد الفتاح السيسي الحكم منذ 4 سنوات لينجز ما يراه فشلاً لمحمد مرسي في عام واحد وبعد 4 سنوات وليس عاما واحدا كأننا نتيجة حكم السيسي طبقا لمعايير استمارة تمرد التي جاءت به للحكم كالآتي:

•        انهيار شديد في الأمن الداخلي والخارجي ووقوع الآلاف من الشهداء والمصابين ضحايا لهذا الاختلال بأعداد فاقت عشرات المرات ما كان يحدث وقت حكم محمد مرسي.

•        تضاعف عدد الفقراء عشرات المرات وتمركزت الثروة في يد رجال السلطة وخدامها.

•        تحول اقتصاد الدولة إلى اقتصاد التسول من الخارج والداخل وعرف الخطاب السياسي المصري مصطلحات جديدة مثل: “العرب عندهم رز كتير ما يدونا منه – يقصد أموال” – و”صبح على مصر بجنيه” و”ادوني الفكة عشان مصر”.

•        انتقلت مرحلة البحث عن حق الشهداء إلى مرحلة اتهام شهداء الثورة بأنهم كانوا ينفذون مخططا خارجيا لخراب مصر.

•        انهارت كرامة مصر على مستوى المحافل الدولية وأصبحت خارج أي معادلة دولية.

•        أصبح لكل دول العالم قدرة على السيطرة والهيمنة على السياسات المصرية بما فيها الدول العربية التي كانت مصر صاحبة الريادة فيها.

•        انهار التعليم واعترف “السيسي” بعدم اهتمامه بالتعليم قائلا: “ماذا يفيد التعليم في وطن ضائع؟، وانهارت الخدمات الصحية واختفت الأدوية وارتفع سعر الدولار من 5 جنيهات وقت حكم محمد مرسي إلى 18 جنيها، وزاد الدين الخارجي من 34.4 مليار دولار إلى 79 مليار دولار.

بعد كل هذا فإننا نقف مذهولين فاقدي المنطق بل القدرة على الاندهاش والتعجب أمام هؤلاء الذين يعيدون مشهد استمارة “تمرد” مرة أخرى وبنفس الصيغة في استمارة تحت عنوان “عشان تبنيها” يدعون فيها لإعادة انتخاب عبد الفتاح السيسي رغم كل هذا الفشل… والحقيقة هذه المرة ليس تناقضاً في موقف الشعب إنما هو استهبال الصفوة والفاسدين ورجال السلطة الغاشمة يفرضونه باسم الشعب ليرتدوا ثوب الشرعية أمام العالم، ويجب علينا فضحه وكشفه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه