الاجتماعي والسياسي في قضية “محمد صلاح”

لو افترضنا أن اتحاد كرة القدم المصري تعامل مع مطالب تنظيمية طبيعية نادى بها أيقونة الفريق الوطني اللاعب الدولي البارز محمد صلاح المحترف في نادي ليفربول الإنجليزي، باعتبارها معركة، فإن صلاح يكون قد انتصر فيها، ومنذ اللحظة الأولى، وبالضربة القاضية.

الذي ينتصر لـ صلاح هو الشعب المصري، وهو أهم وأصدق من أي انتصار آخر، ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعي، وهي الساحة الموثوق فيها اليوم لمعرفة حقيقة نبض الرأي العام سواء المؤيد أو المعارض، وكلاهما واضحان في موقفيهما، وبينهما شريحة ثالثة تتخذ موقفاً وسطاً، أو ضبابياً، فإن الشرائح الثلاث التي لا تتفق أبداً في أي قضية مطروحة على الساحة تجتمع على صلاح وتسانده وتقول فيه ما يتحرج هو أن يقوله عن نفسه>
وليس بالضرورة أن يكون المدافعون عن اللاعب من مشجعي الكرة؛فصلاح صار حالة أو ظاهرة تجاوزت عشاق الكرة إلى مختلف طبقات وشرائح المجتمع.

ومقابل هذا الإجماع النادر جداً اليوم، بل الصعب حدوثه على أي شخص أو موضوع آخر في مصر حالياً، فإن الهجوم الساحق كان من نصيب اتحاد الكرة، وقد نالته اتهامات كفيلة بأن يبادر إلى تقديم استقالته إذ فقد الثقة الشعبية بعد ما جرى في روسيا ثم في طريقة تعامله مع صلاح، وهي أهم من أي ثقة انتخابية، أو رسمية، بل وعليه أن يضع نفسه تحت سلطة التحقيق طوعاً لإجلاء حقيقة الاتهامات الموجهة له.

تجاوز الرياضي

 موضوع صلاح كلاعب صاحب اسم عالمي يتجاوز ما هو رياضي إلى ما هو مجتمعي، بل وسياسي، كيف ذلك؟

نقول إن لحظة 25 يناير كانت رمزاً التف حوله الشعب المصري حتى الشريحة التي كانت ضد يناير عادت واصطفت مع الأغلبية الكاسحة اقتناعاً بنبل أهدافها في الحريات والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، وهي لحظة اتفاق عام لم يشهد تاريخ مصر الحديث مثلها منذ حرب أكتوبر 1973، لكن ما أعقبها من خلافات وأزمات وصراعات متعددة الأسباب متنوعة الجهات، أصاب رمزيتها كمحطة تاريخية مميزة ووحدة جامعة للمصريين.

 الخلافات تطورت إلى انقسامات بدأت خفيفة، ثم صارت عميقة ولا أمل في التئامها قريباً ولا في المدى المتوسط.
وفي المشهد المصري كله بمختلف مستوياته، وتعدد رموزه، وتنوع مجالاته، لا تجد فيه شخصاً أو موضوعاً أو قضيةً محل اتفاق عام، حتى المؤسسات التي كان لها ما يشبه القداسة في الضمير الجمعي العام اقترب منها الخلاف.

 لم تعد هناك رمزية يلتف حولها المصريون، ولم تعد هناك قضية قومية يتجمعون لإنجازها، السد العالي أيام عبد الناصر كان مشروعاً قومياً يُتخذ نموذجاً في هذا الاتجاه، قناة السويس الجديدة حاولت محاكاة مشروع السد، لكن لم يتم لها ذلك، هناك شرائح تفاعلت معها عند شقها واستبشرت بها، ثم اليوم لا تجد كثيراً يتذكرونها أو يعتبرونها مشروعا قومياً.

كل الشعوب بلا استثناء في حاجة دائمة لمن تلتف حوله، شخص له قيمة خاصة، أو مناسبة وطنية، أو مشروع كبير، في إثيوبيا يلتفون اليوم حول مشروع بناء سد النهضة حلم كل الإثيوبيين.
وفي الحرب العالمية الثانية جاء ونستون تشرشل من بعيد ليترأس الحكومة في ظروف خاصة وبعد محاولات التآمر عليه من داخل حزبه “المحافظين”، وعدم ارتياح الملك له، صار رمزاً حقيقياً اجتمع حوله كل البريطانيين، وخاض بهم الحرب دون أن يقدم أي تنازل للطاغية هتلر، وحقق الانتصار.

هنا تظهر قيمة محمد صلاح، وهنا لا يجب التعامل مع هذا الأمر باستخفاف أو استصغار، لكونه لاعب كرة قدم صغير السن، وليس زعيماً وطنياً، أو سياسياً ثقيلاً، أو مناضلاً تاريخياً، أو موظفاً دولياً مرموقاً، أو باني نهضة عظيمة.
ولأن أياً من هذه الرمزيات غير متوفرة حالياً، فإن المصريين وجدوا في صلاح ضالتهم وحلمهم واعتبروه مثل شعاع ضوء في ليل معتم ينجذبون إليه، وهو دعّم هذا المعنى بما عُرف عنه من صفاته الشخصية المحترمة وسلوكه الحميد في التعامل مع الآخرين، ومهاراته كلاعب، وكفاحه على البساط الأخضر بجهده وعرقه، وبروزه دولياً من خارج مصر، وليس من داخلها دون أن يكون لأحد فضل عليه سواء كان مسؤولاً أو مؤسسةً.
ومما يرفع من تقديره شعبياً أنه مرتبط بالبيئة التي خرج منها، وهي نفسها البيئات التي يعيش فيها السواد الأعظم من المصريين في الدلتا والصعيد وأحياء القاهرة.
يرتبط  بقريته وعائلته البسيطة ويساعد في تحسين الخدمات فيها، هذه المسوغات وغيرها كفيلة بأن تصنع له صورة شبه مثالية، كان الناس بحاجة إليها ليجدوا فيها موضوعاً وحيداً يمكنهم التشارك فيه دون اختلاف ولو طفيف، فالحاصل اليوم أنه إذا اجتمع مصريان وتناقشا في أي قضية ستجدهما على طرفي نقيض، ولكن عند صلاح لن تجد هذا التناقض، إنما التوافق.

الأيقونة

ما يفيد صلاح أنه يحترف كرة القدم خارج مصر، وهو عمل لا علاقة له بالسياسة وانحيازاتها وأزماتها، وهي لعبة محببة لكل الشعوب، يتوحد الجميع أمامها، وبسبب شعبيتها الجارفة تسعى الأنظمة لتوظيفها سياسياً للتقرب من المواطنين.
هل تتذكرون ما فعلته رئيسة كرواتيا في مونديال روسيا من تشجيع لفريقها واكتسابها شهرة ومحبة عالمية؟
وعلى منوالها سار الرئيس الفرنسي مع فريق بلاده، والرئيس الروسي كان شبه متفرغ للمباريات في البطولة التي استضافتها بلاده؟، وقادة كثيرون يحرصون على استقبال فرقهم قبل المشاركة في البطولات ويحضرون المباريات المهمة.

وصلاح كان من الذكاء أنه ابتعد خارج الملاعب عن السياسة أو الانخراط فيها أو إبداء مواقف بشأن أحداثها، وبالتالي لم يتم تصنيفه ونجا من محرقتها، ولهذا لا يختلف عليه المؤيد والمعارض والضبابي، ولما التقى السيسي يوماً، وقدم تبرعاً لصندوق تحيا مصر، فإن معارضي السيسي التمسوا له الأعذار، واختلقوا لأجله التبريرات.

أين البديل غير صلاح الذي يمكن أن يتفق عليه المصريون اليوم؟ بعد أحمد زويل لا يوجد هذا الشخص، ومع التقدير للقيمة العلمية للعالم الكبير الراحل، لكننا هنا نتحدث عن أشخاص تحبهم الشعوب وتلتف حولهم بغض النظر عن مكانتهم ووزنهم العلمي والفكري والسياسي، وفرنسا الدولة مثلاً اتخذت قبل سنوات عارضة الأزياء الشابة “ليتيسيا كاستا” رمزاً لها.

 اليوم  يتم إهالة التراب على أي شخص مهما كانت قيمته لمجرد اختلاف بسيط مع هذه الضفة أو تلك، وهذه الحالة المحزنة فيما تعي ذاكرتي لم تشهدها مصر من قبل.
نعم، لم يكن هناك اتفاق عام على الشخصيات المؤثرة ذات التاريخ حتى عبدالناصر، لكن الانقسام حولها لم يكن على هذه الدرجة من الحدة، وانقسام المجتمع نفسه لم يكن على هذه الصورة الخطرة، والإعلام لم يكن ضفتين، ولم يكن يقدم خطاباً تحريضياً تخوينياً داعياً إلى الكراهية وتعميق الخصومة.
ولم تكن هناك أغنية تجزئ المصريين إلى شعبين، والميزة الأساسية لمصر ليس فقط في كونها أول دولة موحدة في التاريخ، إنما لأن شعبها له نسيج اجتماعي شديد التجانس والتماسك، لكن شهوات السلطة والحكم وصراعات السياسة والنفوذ والمصالح وتوظيف الدين تحول المجتمع المتحاب إلى مرجل يغلي.

في وسط هذه الصورة يصير صلاح أيقونة، ويكون مصدراً للحظة الفرح النادرة التي يبحث عنها المصريون، وهو لم يسع إلى ذلك، وغالباً لم يرد في ذهنه أن يكون في هذه المكانة الشعبية المميزة.

الغيرة القاتلة

هل هناك من يحقد على صلاح بسبب الشعبية الجارفة والحب العفوي من الناس ؟،
وهل هناك من تتملكه “الغيرة” القاتلة من “مو صلاح”؟،
وهل هناك من لا يريد لمصري مكافح أن يكون حديث المصريين والعرب ومجال فخرهم؟،
وهل هناك من يريد تحطيم كل قيمة، والتشويش على كل قصة نجاح حتى لا تكون هناك صور أخرى، إنما فقط إطارات فارغة؟،
وهل لهذا مثلاً  يتم استثمار مطالب صلاح التي هي لكل اللاعبين ولمصلحة المنتخب وصورة مصر التي تراجعت كروياً بعد روسيا للدفع باتجاه حملة إهانة وتقليل من شأن لاعب عالمي فذ ووصفه بأنه باحث عن شهره!،
أي شهرة أيها المعتوهون؟، ووصفه بالمدعو محمد صلاح!، أي مدعو بينما اسمه يتردد على ألسنة الكبار والصغار في العالم؟

إذا كانت الحملة مجرد جس نبض للبدء تريجياً في تشويهه فقد جاء الرد سريعاً وصاعقاً بالتفاف الملايين حوله دون طلب منه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه