الإعلام المصري ما بين العبودية والوهم الثوري

 

قال لي زميلي الإعلامي «السيسي بدأ العام الجديد بتنفيذ إعدامات وهي رسالة للشعب المصري»!!

الحقيقة أنني اندهشت من العبارة والمنطق فالعبارة تعني أن السيسي بدأ بشىء جديد لم يفعله من قبل، وهو ما لم يحدث فكل الأعوام التي تلت حكم السيسي كانت أعوام دماء وآلام وأحزان ولا أرى في تنفيذ أحكام الإعدامات في بداية العام الجديد أي رسالة جديدة.

عفرتو

المشهد الأول… مات «عفرتو» داخل قسم المقطم من التعذيب، وفي أقل من 24 ساعة ظهرت موبقات النظام وغباؤه وغباء إعلامه، وظهر في المقابل سذاجة الإعلام الشعبي الذي تحركه الآلام والآمال أكثر من المنطق ففقد الاتزان.

الإعلام الأول تدفعه المصلحة المباشرة المركونة على الفساد وعبودية الانتهازي وكلها عوامل تفقد صاحبها أي إحساس بالكرامة أو القيمة الوطنية أو أي قيمة إنسانية حتى لو تم «مرمطته» بالطريقة المهينة التي ظهرت في تسريبات «نيويورك تايمز»، ويظل ينشد نشيد جوقة العبودية لسيدهم «أنا والعذاب وهواك عايشين لبعضينا»، فإن تركه سيده لهث بفعل الحزن وإن حمل عليه لهث بفعل الغباء والاشتياق، ولهذا كانت التغطية السريعة والمرتبكة لحادث قتل «عفرتو» داخل قسم المقطم فبعد تسريب تقرير الطبيب الشرعي والذي انتهى إلى أن سبب الوفاة نزيف داخلي وتهتك في الطحال وظهور آثار للتعذيب، تلقى عبيد الإعلام التعليمات من مكاتب الأسياد بالتعتيم على كل ما يتعلق بالتعذيب، فكانت المسخرة المهنية والمنطقية عندما تحول التقرير على كل المنابر الإعلامية السلطوية إلى أن سبب الوفاة نزيف داخلي وتهتك في الطحال ولا آثار للتعذيب!!، وكأن القتيل فجر نفسه داخل حجز القسم!!

الإعلام الثاني وهو الإعلام الأقرب للشعب بحكم كونه في معسكر المعارضة للنظام الحاكم يتسم أداؤه بالتحريض في مضمار واحد، وهو إبراز الأحداث باعتبارها مؤشرات مؤكدة على انهيار النظام الفاشي وسقوطه والبكاء على النظام المُنقلب عليه غير مفرقين بين الأمل والوهم، الأمل لا يغض النظر عن الواقع فيتعامل معه ويهزمه أما الوهم فيتجاهل الواقع ويتجنب التعامل معه فينهزم أمامه، ولهذا رأى هذا الإعلام في حادث «عفرتو» وما سبقها من حوادث، مثل حادث كنيسة مار مينا في حلوان، تشابها مع حادث خالد سعيد وحادث تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية وهي الحوادث التي سبقت ثورة الشعب في 2011 فكان أداؤهم الإعلامي مدفوعا بوهم أن الثورة باتت على الأبواب مستندين على يقينية مبعثها أن الأحداث المحيطة بالثورة لا تتغير وأن تكرار هذه الحوادث معناه إشارة واضحة بحدوث الثورة على النظام!!!

والحقيقة التي غابت وراء الوهم أن تكرار هذه الحوادث لا يعني إلا معنى واحدا وهو أننا نعيش حالة ردة بعد ثورة الشعب نتج عنها تمكن نظام عسكري شكل امتدادا لنفس النظام الذي توهمنا سقوطه عام 2011. وأن الأزمة الحقيقية أن الجروح التي تسببت فيها الثورة المضادة للشعب ما زالت ملتهبة ومتقيحة للدرجة التي تمنعه من أي تحرك ثوري على غرار ما حدث عام 2011، والانقياد للوهم يبعدنا عن الطريق الصواب تجاه مداواة الجروح وتجاوز الخلافات والعودة مرة أخرى لاستكمال مراحل ثورة 2011.

التسريبات

المشهد الثاني… زفة إعلامية كبيرة في معسكر المعارضة بعد الكشف عن تسريبات حوار بين ضابط مخابرات وبعض المذيعين يوجه لهم تعليمات بشأن الخطاب الإعلامي حول قرار ترمب بنقل السفارة الأميركية للقدس واعتبارها عاصمة إسرائيل، وخاصة ما جاء على لسان ضابط المخابرات من عبارات تشير إلى حرص النظام المصري على القضاء على حماس أكثر من حرصه على مواجهة الوجود الصهيوني.

لا أنكر أن المشهد استفزازي وأنني شخصيا شاركت في زفة انتقاده وفضحه، ولكنى لم أنس مطلقا أن هذا المشهد هو تحصيل حاصل ومعروف بالضرورة حول وضع الإعلام في مصر، وخاصة بعد جهر أجهزة الأمن المصرية باستحواذها على معظم المؤسسات الإعلامية في مصر ومطاردة الإعلاميين غير الموالين للنظام وتشريدهم وحبسهم، بل على العكس هو امتداد لحالة تاريخية مع الاختلاف في الأداء الذي وصل إلى أقصى درجات التدني في العهد السيساوي سواء على مستوى تناول الموضوعات أو نوعية الأفراد، وكما ذكرت الأمر له امتداد تاريخي فنجد في عام 1882 وبعد هزيمة العرابيين ودخول الإنجليز إلى الإسكندرية في استعراض مع الخديوي الخائن توفيق، أن قامت جريدة الأهرام الموالية للقصر الخديوي بإعلان الاحتلال الإنجليزي لمصر باعتبارها بشرى تزفها للشعب!!

وفي عام 1948 وبعد الحملة الصحفية التي قادها إحسان عبد القدوس حول الأسلحة الفاسدة، وانتشار الأخبار الصحفية حول فساد وفضائح العائلة المالكة، أصدر الملك فاروق قراره بحظر النشر في هذه الموضوعات وفورا ظهر من الإعلاميين المشتاقين للسلطة من وجهوا موضوعات تجاه تقديس الملك وفي هذه الفترة ظهرت دعاوى نسب الملك الشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقب هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 كانت التعليمات للصحف عدم التعرض لرد الفعل الشعبي حول الهزيمة ومنعت الصحف الصحفيين والكتاب من مناقشة أسباب هزيمة يونيو، وانتشرت كتابات محمد حسنين هيكل صحفي الرئيس آنذاك التي تبرر الهزيمة وتواجه المطالبات بالحشد الشعبي لمواجهة الصهيونية والدعوة إلى الاصطفاف وراء النظام المهزوم وجيشه النظامي، وبعد اتفاقية السلام مع إسرائيل استبعد أنور السادات الصحفيين المعارضين من عملهم وطالب بشطبهم من نقابة الصحفيين، وظهر في ذلك الوقت الصحفيون الموالون للنظام أمثال محسن محمد وموسى صبري رئيس مجلس إدارة صحيفة الأخبار آنذاك والذي جمع الصحفيين المعارضين للقاء كامب ديفيد بين أنور السادات ومناحم بيجين وقال لهم «لا أريدكم الكتابة في صالح كامب ديفيد ولكني أريدكم أن تحبوا كامب ديفيد!!»

الاستحواذ

الشاهد أن هذا الوضع تاريخي وممتد ولكن الفارق أن الوضع السابق كان يتعلق بسيطرة الدولة على قيادات المؤسسات الصحفية وليس الاستحواذ على ملكية المؤسسات الصحفية وشتان بين الأمرين فالأخير يعني التحكم التام في مصير وحياة الإعلاميين، ولهذا كان من الغريب الآن أن يكون رد فعل الساحة الإعلامية حول تسريبات التوجيه المخابراتي للإعلاميين أقوى وأعلى من رد الفعل حول استحواذ أجهزة الأمن على ملكية المؤسسات الإعلامية، وخاصة أن تدخل المخابرات في أداء الإعلاميين هو نتيجة مباشرة لهذا الاستحواذ الذي سبقه استبدال الإعلاميين بعناصر مجتمعية انتهازية ليس لها علاقة بالإعلام وصلت إلى حد زرع أشخاص في الإعلام ليسوا فوق مستوى الشبهات منهم مدرب كرة يد بلطجي ودجال يدعي العلاج بالأعشاب.

الخلاصة أن قضية الإعلام تعقدت بنفس تعقيدات الواقع المصري كله بعد سيطرة الثورة المضادة على نتائج ثورة 2011، والحل الوحيد أمام الإعلاميين هو البحث عن وسائل اتصال جديدة مع الشعب المصري بعيدة عن المؤسسات التي استحوذت عليها أجهزة الأمن بالإضافة إلى التعاون مع المؤسسات المعارضة ليس في تناول الموضوعات باعتبارها ردود فعل لسياسات النظام القمعي وإنما كمنابر تجمع كل طوائف الشعب المصري وتوحده في اتجاه التخلص من الحكم الفاشي، إعلام يقود الرأي العام وليس إعلام رد الفعل لبطش النظم القمعية، إعلام الشعب يوجهه ويعبر عنه، وهناك تجارب تاريخية ثورية في هذا المجال أبرزها جريدة «إسكرا» (وتعني الشرارة) وهي الصحيفة التي أنشأها لينين عام 1901 خارج روسيا ثم تحولت إلى صحيفة الحزب الشيوعي وكانت تصل إلى كل الشعب الروسي تحمل صفحاتها التوعية بالثورة وتتيح الكتابة لجميع الاتجاهات حتى نجحت في تحريك المجتمع الروسي في ثورة كبرى عام 1917 وإسقاط الإمبراطورية الروسية الغاشمة.

فرق كبير بين دور الإعلامي فاقد الضمير في مؤسسات النظم القمعية، ودور الإعلامي الوطني بين جموع الشعب المظلوم… صحافة الشعب هي الخطوة الأولى نحو الثورة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه