الإسلام وجريمة دهس المدنيين البرآء

انتشرت منذ فترة قليلة قضية دهس المدنيين والبراء في أوربا، حيث يقوم أحد الأشخاص بقيادة سيارة ثم يدهس بها مجموعة من الناس، أو فردا منهم، وهذا الفعل جريمة وكبيرة من الكبائر في شرعنا الإسلامي الحنيف، فإن كل مسلم يدخل بلاد الغرب أو أي بلاد عربية كانت أو غربية، مسلمة أو غير مسلمة، يدخلها بتأشيرة (فيزا) دخول، وهي بمثابة عقد بينه وبين الدولة التي يدخلها تقضي عليه بأن يدخلها آمنا، ويأمن أهلها منه، فلا يجوز أن يلحق بهم أذى ولا شرا، في مالهم، أو دمائهم، أو أعراضهم، أو يخالف القانون الذي يحكم به في بلادهم، فقد دخل على هذا المبدأ، وهو عقد ملزم له ولهم، يتعامل وفق هذا العقد، فإذا خالف ذلك بأي اعتداء يكون قد ارتكب جرما حرمه الشرع، وبخاصة ما كان في باب الاعتداء على الدماء بسفكها، أو إثارة الرعب والفزع بين أهل البلد، فإن قتل أحدا بما أصبح معروفا الآن بعمليات الدهس، فهو في عرف الشرع الإسلامي قاتل، يستحق عقاب القاتل كما نص عليه الشرع.

لواء غدر

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن من غدر بمن أعطاه الأمان، فسفك دمه: “أيُّما رجل أَمَّن رجلا على دمه ثم قتله، فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول كافرا”[1]، وفي رواية: “فإنه يحمل لواء غَدْر يوم القيامة”.[2] وفي رواية: “إذا اطمأن الرجل إلى الرجل؛ ثم قتله: رُفع له لواء غدر يوم القيامة”.[3]

وقد كان هذا الحديث مانعا من قتل صحابي جليل للمختار الثقفي الكذاب، فعن رفاعة بن شداد القتباني قال: لولا كلمة سمعتها من عمرو بن الحمق الخزاعي لمشيت فيها بين رأس المختار وجسده، سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أَمَّن رجلا على دمه فقتله: فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة”.[4]

والمختار الثقفي ادعى النبوة، وعده شراح الأحاديث من الدجالين والكذابين الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم. ويقول شراح الحديث: (من أمَّن رجلاً على دمه): عقد له أمانًا، سواء كان ذلك المؤمِن إمامًا، أو رجلاً من أي المؤمنين، أو امرأة. (فقتله) بعد الأمان، أو على ماله فأخذه، (فأنا بريء من القاتل)، لأن الله أوجب الوفاء بالعهود، والأمان عقد ذمَّة (وإن كان المقتول كافرًا) فإن كفره لا يبيح نقض أمانه، وهذا أمر تعداه غالب ملوك الدنيا، وكثير من أشرار الأمة). [5]

فتأمل هنا إنكار الإمام الصنعاني على من يؤمن شخصا ثم يقوم بالغدر به بقتله، وبيان أنه صار فعلا يأتيه غالب ملوك الدنيا في زمانه، ووصف من يفعل ذلك من عامة الناس، بأنهم: شرار الأمة!!

وقال عليه الصلاة والسلام من حديث ابن مسعود: “لكل غادر لواء يوم القيامة، يعرف به، يقال: هذه غدرة فلان”[6] ومن حديث ابن عمر: “إذا جَمَع الله الأولين والآخرين يوم القيامة: يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان”.[7]

وفي حديث أبي سعيد: “لواء عند إسته”[8] أي خلف ظهره، لأن لواء العزة يرفع على الرأس أو تلقاء الوجه، فناسب أن يكون عَلَم المذلة في هذا الموضع زيادة في فضيحته، فقوبل بنقيض قصده.

الغرب ومساعدة الظلمة

ولا يتحججن أحد بأن الغرب يساند الحكام الظلمة في بلادنا، أو يخطط ليل نهار ضد مصالح المسلمين، فالواجب مواجهة العسكري في ساحة الحرب، وليس في ساحة المدنيين، ولا يجيز الإسلام للمسلم دخول بلاد عدوه وقد أعطوه حق الدخول الآمن لبلادهم فيرتكب الجريمة في بلادهم، فهو محرم شرعا، ويكفينا في ذلك استدلالا على أخلاق المسلم مع غير المسلمين في بلادهم، حتى وإن كانوا أهل ظلم وغدر له، أن يكون منه الوفاء والخلق، موقف خبيب بن عدي رضي الله عنه، وقد كان ممن أُسِرُوا في فاجعة بئر الرجيع، فاشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل، ليقتلوه بالحارث الذي قتله خبيب يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا، حتى إذا أجمعوا قتله استعار مُوسَى (ألة حلاقة) من بعض بنات الحارث ليستحدَّ بها، فأعارته، وغفلت عن صبي لها، فدرج فجلس على فخذه، تقول المرأة: ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي لئلا يقتله انتقاما منه، فقال خبيب رضي الله عنه: أتخشين أن أقتله؟! ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله. فكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب.[9] وكانت أخلاقه سببا في إسلامها فيما بعد.

إنه موقف رائع يدل على سمو الروح، وصفاء النفس، والالتزام بالمنهج الإسلامي، فقد قال تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) الإسراء: 15. إنه الوفاء يتعلمه الناس ممن غدر بهم، وإن الاستقامة طبيعة سلوك المسلم في حالتي الرخاء والشدة.[10]

الاعتبارات الموهومة

وفي قول خبيب رضي الله عنه (ما كنت لأفعل إن شاء الله) يشير هذا الأسلوب في البيان العربي إلى أن هذا الفعل غير وارد، ولا متصوَّر، ولا هو في الحسبان، في هذا الظرف الحاسم، الذي قد يتعلق فيه الاستثناء لموقع الضرورة، وإنقاذ المُهَج، لكن المبدأ الأصلي: الوفاء، والكف عن البراء لا تنهض له هذه الاعتبارات الموهومة، [11] وهذا مثل من عظمة الصحابة رضي الله عنهم حين يطبقون أخلاق الإسلام على أنفسهم مع أعدائهم – وإن كانوا قد ظلموهم – وهذا دليل على وعيهم، وكمال إيمانهم.[12]

وكذلك موقفه عندما طلب منهم أن يتركوا له فرصة أن يصلي ركعتين، فلم يُطل فيهما مخافة أن يظنوا أنه يخشى الموت، فهنا راعى خبيب صورته كمسلم أمام غير المسلمين، وألا تكون صورة سلبية، تختزن في أذهانهم، بل كان موقفه مدعاة لتعجب المشركين، فقال أبو سفيان: والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا!

فمثل هذه الأعمال جريمة وكبيرة يرفضها الإسلام، ويمنع المسلم دينه وتقواه من أن يفكر في اقترافها، فضلا عن فعلها، أو الرضا بها، أو التشجيع عليها قولا أو فعلا، فإن الله تعالى لا يرضى بالغدر ولا الخيانة، بل ديننا هو دين الوفاء والأمان.

 


[1] رواه ابن حبان (5982) عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه، وحسن إسناده الشيخ شعيب الأرناؤوط، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (11028).

[2] رواه ابن ماجة (2688) عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه.

[3] رواه الحاكم (8040) (4/353) وصححه ووافقه الذهبي، والنسائي في الكبرى (8688) (8/78) عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (357).

[4] رواه اأحمد (5/223، 224) والخرائطي في “المكارم” (29) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (440).

[5] انظر: التنوير شرح الجامع الصغير للأمير الصنعاني (10/12).

[6] رواه البخاري في كتاب الجزية (3186) و(3187) ومسلم في كتاب الجهاد (1736).

[7] رواه البخاري في كتاب الأدب ومسلم في الجهاد (1735).

[8] رواه مسلم في كتاب الجهاد (1738).

[9] رواه أحمد (2/310) والبخاري (3767) وأبو داود (3112) والبيهقي في السنن الكبرى (5/262) وفي الدلائل (3/325،324) وعبد الرزاق في مصنفه (9730) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[10] انظر: من معين السيرة ص 259.

[11] انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة ص 153.

[12] انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/38) نقلا عن: السيرة النبوية للدكتور علي محمد الصلابي (2/167،166).

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه